في 29 نيسان الفائت نشرت شخصيات #لبنانيّة عدة دراسة دستورية معمّقة، على شكل عريضة مفتوحة، أوردت فيها نقطة تلو الأخرى أهمّ انتهاكات #الدستور اللبناني التي ارتكبها ويرتكبها فخامة الرئيس ميشال عون بنظر القيّمين على هذه الدراسة.
تلك الوثيقة التي يمكن اي مواطن أن يوقعها هي بمثابة لائحة اتهام تندّد بحالة غير طبيعية، حيث لم تعد سيادة الحقوق والقانون قائمة في لبنان. هذه الحالة الشاذة ليست ناتجة عن طريق تبخّر النصوص ولكن فقط عن طريق تحريف قراءتها ممّا يسمح بعدم تطبيقها المتعمد من جانب الشخص المسؤول الذي أقسم اليمين على احترامها والحفاظ عليها مهما كلّف الأمر.
قائمة هذه الأفعال الجنائية طويلة. ويمكن تلخيصها بالقول إن الرئيس عون يتصرف وكأنّه تسيطر عليه قناعة تقول: أنا الدولة – أنا الحقوق – أنا القانون. من الممكن أن يكون هذا هو المعنى العميق لمفهوم “الرئيس القوي”. هل نسي صاحب الفخامة أنه حلف اليمين وأدّى القسم على الدستور ليس كي يجتهد بتفسيره وفقًا لمصلحته السياسية الخاصة، ولكن لتطبيق النص الدستوري حرفيّاً دون تردّد ودون أيّ مماطلة. بحكم قسمه وولايته الذي أوكلها إليه الشعب اللبناني منبع كل السلطات، لا يملك الرئيس الحق في تفسير نصّ الدستور بل مهمّته السامية تفرض عليه تطبيقه دون اللجوء إلى الأجتهاد. وهذا ما ينطبق أيضاً على مستشاريه مهما علا شأنهم وكفاءتهم. لا يملك أحد من أهل السلطة التنفيذيّة أي صفة بحكم مهمّته تسمح له بالانخراط في الأجتهاد أو التصرّف وفقاً لآرائه في النصّ الدستوري. مفهوم “الرأي” يحتلّ أدنى مرتبة من مرتبات فئات الفكر للعقل البشري.
من البديهي أن نقول بأن نصّ الدستور ليس حقيقة مطلقة بمثابة نصوص الكتب المقدّسة كالقرآن الكريم والتوراة والأناجيل. ولكنه المعيار الأعلى والأسمى في مجتمع الوطن الواحد. هو معيار المعايير والأعراف والقوانين. الدستور ليس حقيقة سامية منزلة كرسالة سماويّة، لكنه رأس الهرم في الحيّز العام. هو المصدر الأوّل والمرجع المطلق. هو مبدأ أساسي ومصدر أوّل يشكّل حجر الزاوية لكامل صرح الدولة ونظامها القانوني. النص الدستوري يفرض ذاته بذاته وليس بفعل أيّ إجتهاد. ومن غير الطبيعي أن يتحوّل النصّ الدستوري إلى موضوع نقاش وسجال وتفسير من جانب أولئك الذين تتمثل مهمتهم في تطبيقه.
هذا مظهر من مظاهر الشواذ في إدارة الشأن العام والحفاظ على حقوق المواطن. هناك بعض الدول ليس لديها دستور مكتوب ولكنها تعمل بفعل قوانين عامة تؤدي نفس الوظيفة. رئيس الجمهورية ليس طاغية مستبدًا حيث إرادته الشخصيّة تتمتّع بشكل تعسّفي بمرتبة القانون. هو رئيس الدولة. سلطته لا تنبع من شخصه ولكن من مهمّاته وواجباته وصلاحياته الموصوفة بدقّة وعناية في الدستور. لذلك هو ليس مثل قاض من القضاة الجالسين يمكنه، كرئيس محكمة، تفسير نصّ المواد القانونيّة لإصدار حكم باسم الشعب اللبناني من أجل تحقيق العدالة. فلذلك ولأنّه مبدأ ومصدر أوّل، يتمتّع الدستور بشيء من القدسيّة تعطيه صفة مطلقة بالرغم من أنّه من الممكن تعديله حسب أصول صارمة وفقاً للقانون.
الدول التي تحترم نفسها لا تعدّل دساتيرها من أجل تحقيق أهداف سياسية دنيئة كما حصل مرارا في لبنان ولكن من أجل تحصين حقوق المواطن وتطوير حسن الخير المشترك في هذه الدولة. ولكن عندما يسمح الوصي على الدستور لنفسه، ومن جانب واحد، بأن يكون له رأي في مهمة وصايته هذه فإن هكذا سلوك تعسّفي يدعى “الخيانة العظمى” كما يحدّد هذا المفهوم العلاّمة الدستوري الكبير Maurice Duverger بأنها “جريمة سياسية تتمثّل في إساءة استخدام الشخص لمنصبه من أجل عمل مخالف للدستور” أو العلاّمة Georges Vedel بكونها “خرقًا سياسيًا لالتزامات المنصب”. هذه هي بالضبط النقطة المحوريّة التي أراد إبرازها وتسليط الضوء عليها العلماء الدستوريّون الذين أجروا الدراسة المعنيّة.
تأتي لائحة الاتهام هذه بعد المشهد السريالي الذي شاهدنا فيه قاضياً يتمرّد على القانون. رأينا على شاشات التلفاز كيف انتهكت المدّعية العامة #غادة عون القوانين التي من المفترض أن تطبقها بفضل إستخدام إكراه سيف العدالة. تجاهلت القاضية عون قرار رؤسائها سحب ملفّ قضيّة وتوكيل قاض آخر به من جسم النيابة العامة الواحد. فضلت التمرد والعمل خارج إطار الإجراءات المعترف والمعمول بها. بحجة مداهمة وكر فساد لشركة صيرفة، فضّلت استخدام الاعتداء على أملاك خاصة لهذه الشركة في إطار همروجة شعبويّة وسط صراخ وهتاف حشد غاضب يصفّق لها. رأيناها كيف داست على القانون واستباحت أبواب ملكيّة خاصة بمساعدة جمهور من المناصرين يتقدّمهم “حدّاد إفرنجي” أجبرته السيّدة عون على خلع الأبواب الحديدية. ومن ثمّ خرجت إلى شرفة الشقّة منتصرة وحيّت بابتهاج جمهور المناصرين المحتشد. وبدلاً من ضمان تماسك الهيئة الهرمية الصارمة لسلطة #القضاء الواقف، لم تجد وزيرة العدل المستقيلة شيئًا أفضل من الالتزام بحياد غريب. فقرّرت النأي بنفسها وفضّلت أن تلجأ إلى موقف وسطي محايد اختزل الفضيحة، إن لم نقل الجنحة أو الجرم، إلى مجرّد إختلاف شخصي وسجال بين قاضيين في مرتبتين مختلفتين من جسم هرم النيابة العامة: المدعية العامة غادة عون ورئيسها الهرمي غسان عويدات من محكمة التمييز.
من الواضح أنه قد تمّ إغتيال لبنان نهائيّاً كدولة الحقوق والقانون بعد أن استبيحت سيادته وتمّ تدمير مؤسساته الإنتاجية والتربوية والاقتصادية والمالية كما قطاعه المصرفي. وهكذا جرائم أرتكبها المسؤولون الذين أوكلهم الشعب بضمان الأمتثال والأحتكام إلى القانون.. لذلك الوضع اليوم هو خطير جدّاً حيث لم يعد لأي سلطة إمكانيّة الحفاظ والدفاع عن حقوق المواطن الأساسيّة كالحرّيات والملكيّة الخاصة ناهيك عن تشويه صورة اللبناني التي كانت موضع إعجاب من قبل العالم أجمع. العدالة ذاتها أصبحت سلاحاً يخدم الجريمة إذ لا شيء بعد اليوم يردع القضاء أن يعتدي على الناس. هذا ما جرفت إليه الشعبويّة البغيضة والمبتذلة. منذ القدم عرفت مدينة بيروت بأنها “أمّ الشرائع” وحارسة دستور الأمبراطوريّة الرومانية حسب قرار الأمبراطور يوستينيانوس قيصر. أمّا اليوم وفي ظلّ هذا العهد تحوّلت بيروت العريقة إلى وكر للعدالة المضادة لأنها إبتذال شعبوي. هكذا عدالة خارجة عن القانون كانت تمارس في الصين في ظلّ ديكتاتوريّة “عصابة الأربعة”.
لم ينس التاريخ هذه الفترة والسيرة الملحميّة للإمبراطورة الحمراء جيان كينغ زوجة الزعيم ماو تسي تونغ التي ذكّرتنا بها إنجازات القاضية غادا عون الأخيرة.
وهكذا يجبرنا القيّمون على الجمهورية اللبنانيّة على إجراء تشخيص مخيف لحالة البلد البائسة: لم يعد الحقّ والقانون المرجع المعياري للعدالة وسلطتها القضائية المستقلة. علاوة على ذلك، لم يعد الدستور نفسه يشكّل المعيار الأعلى في الحياة السياسية. لقد أصبح الدستور مجرّد نصّ خال من المعنى أو بالأحرى معناه هو عمليّة تفسير آنيّة وتعسّفية ناتجة عن الرأي الشخصي للمؤتمنين على حراسته. لم يعد هناك أي معيار موضوعي خارج قوّة الأمر الواقع التي يتميّز بها هؤلاء أو يفرضوها بالإكراه.
وهكذا نحن في حالة مرضيّة حيث لا يستمدّ المسؤول الأوّل في الدولة سلطته من النصّ الدستوري الذي هو مجبر أن ينفّذه ولكن فقط من قدرته، بفضل خداع المناورات السياسية، على فرض إرادته التعسفية من خلال الاستهزاء بالمعايير الدستورية للشعب اللبناني والتي لا تعجبه أو تخدم مصلحته الفئويّة.
لقد أصبح لبنان في أحسن الأحوال “كيان اللاّ-دولة”.