منذ أكتوبر 2019 إثر انتفاضة الحراك الثوري، كانت طرابلس “عروس الثورة” وركنها الأساسي، لكن موقعها في الأطراف يدفع بحزب الله والتيار العوني إلى استغلال انقساماتها والسعي لتغذيتها.
تشهد مدينة طرابلس عاصمة شمال لبنان منذ بداية هذا الأسبوع مواجهات واحتجاجات بدأت رفضاً للإغلاق الكامل بسبب جائحة كورونا، وعدم وجود بديل معيشي ومساعدات لسكان هذه المنطقة الأكثر فقراً في البلاد. لكن تحول “الثورة الاجتماعية” إلى أعمال تخريب وحرق واستباحة لأمن المدينة وأملاكها، طرح تساؤلات عن أسباب التصعيد والثغرات في تنسيق القوى الأمنية ومحاولة توظيف غضب وسخط الناس في تصفية الحسابات بين أطراف المنظومة الحاكمة، من دون إهمال العاملين الخارجي والمتطرف في هذه المدينة التي كانت أكثر من عانى خلال عدة فترات من “الحروب اللبنانية” إبان الوجود العسكري السوري وبعده. وإذا كانت طرابلس اليوم بمثابة المؤشر أو المختبر لتفاقم أزمة ثلاثية الأبعاد صحية واجتماعية وسياسية، فإن أحداثها تدلل قبل كل شيء على صورة البلاد في هذه المرحلة وما تنطوي عليه من مخاطر الفوضى والانهيار وتفكك القوى الأمنية و”الأمن الذاتي” في ظل عهد محاصر وفراغ حكومي وبؤس اجتماعي، ودوام انتظار سراب التسويات الخارجية بعد تمركز إدارة بايدن.
يصف الروائي اللبناني محمد أبي سمرا طرابلس بأنها “ساحة الله وميناء الحداثة”، وكان من خلال حكاياته يركز على أن هذه المدينة المتوسطية (وهي أكبر مدينة لبنانية ذات أغلبية مسلمة سنية) تجمع بين الإيمان والحداثة من خلال تنوعها الديني والثقافي ومينائها الشهير. لكن لولا دورها في نشوء لبنان الكبير، لم تكن المغامرة اللبنانية ممكنة منذ مئة عام، وبدل مكافأتها على عمق انتمائها اللبناني واستمرار بعدها القومي، تمت معاملتها بإجحاف طوال عهود الاستقلال، وبقيت مشاريعها لتطوير الميناء ومعرضها التجاري الكبير وإعادة تشغيل مصفاة نفطها مكان مساومات وتسويف خاصة في عهد الرئيس ميشال عون وسعي خليفته المعلن الوزير السابق جبران باسيل للتركيز على مدينته البترون مع تهميش مستمر لمدينة طرابلس.
من أجل فهم أحداث طرابلس لا بد من التذكير بمفاصل من تاريخها الحديث. رجالاتها كانوا طليعيين في الانضمام إلى نشأة كيان لبناني منفصل عن العمق السوري. “طرابلس الشام” تضرب جذورها عميقا في التاريخ، وهي اليوم من كبرى حواضر المتوسط (وأكثرها فقرا)، لكنها من المدن السنية العربية العريقة من الموصل إلى بغداد ودمشق وبيروت، والتي تتعرض من دون هوادة لهجمة محور إقليمي يلعب منذ 2003 على وتر تغيير وجه الإقليم، وضرب الأكثرية فيه تحت عناوين مشبوهة مثل تشبيه البعض سابقا لطرابلس بأنها “قندهار الجديدة” في محاولة لتشويه تاريخها في الانفتاح والعيش المشترك والتفاعل الثقافي.
وبالرغم من كون الرئيس الراحل رشيد كرامي، مرجعيتها السياسية السابقة، من أركان الحقبة الشهابية (1958 – 1970)، لم تنَل طرابلس قسطها من إنماء متوازن موعود. ولذلك، ما إن بدأت أعاصير زعزعة الاستقرار تهب مع بروز عامل الوجود الفلسطيني العسكري، كانت حاضرة الشمال من المتأثرين عند قيام فاروق المقدم في 1974 بحراك “ثوري” ضد السلطات قبل عام من بدء جولات الحروب، وحينها في سبتمبر 1975 اندلعت الجولة الثالثة في الشمال وكان بين المشاركين أنصار رئيس الجمهورية حينذاك سليمان فرنجية من جهة وأنصار كرامي من جهة أخرى، ومنذ ذلك الحين أخذت سموم الفتنة الطائفية والتدخل الخارجي تلوث لبنان.
وخلال حقبة السيطرة العسكرية السورية على لبنان كانت طرابلس دوما في عين العاصفة، وعانت من مساعي التركيع وسط وجود صراعات عربية – عربية شاركت فيها القوى الفلسطينية والعراق حينها. وخاض الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات آخر معاركه اللبنانية في طرابلس عام 1983، وكان خصمه الأساسي فيها دمشق.
واستمرت تصفية الحسابات على الساحة الطرابلسية في منتصف الثمانينات، وتعرض حي باب التبانة الشعبي لقمع منهجي ومجازر، وفي تلك الحقبة قضى رشيد كرامي اغتيالا وخسرت المدينة مرجعها السياسي. لكن بعد بدء تنفيذ اتفاق الطائف، تسنى للرئيس الراحل رفيق الحريري الاهتمام بعاصمة الشمال قدر الإمكان وحسبما كان يسمح الوصي السوري. ومن المفارقات أنه بعد انسحاب القوات السورية من لبنان في 2005، بقيت طرابلس وجوارها تحت الضغط وخاصة عبر التسلل الإرهابي المبرمج في 2007 إلى مخيم نهر البارد تحت يافطة “فتح الإسلام” الذي انهزم بفضل الجيش اللبناني وتضامن أهل الشمال وتيار المستقبل معه. لكن ذلك لم يردع إصرار أنصار النظام السوري عن استخدام سلبي لهذه الساحة مع بدء دخول حزب الله على الخط تحت عنوان ”سرايا المقاومة”، وشهدت طرابلس قتالا داخليا بين حيّي جبل محسن المدعوم من المحور السوري – الإيراني وباب التبانة، وتوقف ذلك بعد تسوية الدوحة في 2008، ولكنه عاد واشتعل بعد بدء الحرب السورية في 2011.
ومنذ أكتوبر 2019 إثر انتفاضة الحراك الثوري، كانت طرابلس “عروس الثورة” وركنها الأساسي، لكن موقعها في الأطراف يدفع بالفريق المسيطر على الدولة أي حزب الله والتيار العوني إلى استغلال انقساماتها والسعي لتغذيتها، ويصل الأمر بالبعض إلى محاولة الترويج لعزلها وعقابها.
مما لا شك فيه أن غياب مرجعية سياسية ممثلة للمدينة يجعلها أكثر انكشافا في اللعبة السياسية الداخلية وعرضة للاختراق والاستخدام. وإذا كانت كل المنظومة الحاكمة المنتهية الصلاحية تتحمل المسؤولية في وصول البلاد إلى الوضع الحالي وانفجار أوضاع طرابلس، لكن الانسداد الموجود على رأس السلطة لجهة تشكيل حكومة جديدة، يؤشر على مسؤوليات متصلة بالإصرار على المحاصصة رغم بدء سقوط الهيكل على رؤوس الجميع.
وبلغ السيل الزبى مع فتح المعركة الرئاسية في 2022، وذلك في سياق مشهد سريالي ضمن بلاد الغرائب اللبنانية. وكان البعض يتهم أطرافا داخلية بتحريك الشارع لتحسين مواقعها، أو التخويف بالفوضى لتمرير انقلاب وفرض الأمر الواقع من قبل فريق رئيس الجمهورية، ويراود الشك بعض الأوساط أن جبران باسيل المعاقب أميركيا والذي أخذت فرصه الرئاسية تضيع، مصمم على ضرب منافسيه المفترضين وأولهم حاكم المصرف المركزي رياض سلامة تحت عنوان “التدقيق الجنائي”، وثانيهم قائد الجيش العماد جوزيف عون من خلال أفخاخ مثل إدارة أعمال الشغب في طرابلس. وتتوافق القيادات الطرابلسية على طلب إقالة المحافظ رمزي نهرا المقرب من باسيل لتقصيره الكبير.
بالإضافة إلى العاملين الاجتماعي والداخلي السياسي، ليس من المستبعد أن تكون عوامل خارجية وراء تحريك الوضع في طرابلس لأن لبنان خاضع لتغيير المعادلات الإقليمية، ولأنه بالرغم من التجاذب الداخلي، توجد في خلفية المشهد رغبة إيران ومحورها في الإمساك بالورقة اللبنانية كي يكون محل مساومة أو جائزة ترضية كما كان يحصل في مرحلة الوصاية السورية، وكأن البعض يريد التهويل بإمارة داعشية (كما حصل في نهر البارد من قبل) وتكرار التجربة من بوابة هز الاستقرار عبر ساحة طرابلس ومختبرها.
khattarwahid@yahoo.fr