بيت القصيد في الاتفاق الأخير بين الولايات المتحدة وحركة طالبان هو عدم السماح لمنظمة القاعدة أو أي قوة متطرفة أخرى العمل من ضمن مناطق سيطرة هذه الأخيرة.
بمعنى أنه يمكن القبول بالحركة إن تخلّت عن جهادها وغلّبت المصلحة على القتال. حدث ذلك بعد عشرين عاماً من الاحتلال الأميركي لأفغانستان، والذي أعقب هجوم القاعدة على برجي التجارة العالميين في 11 سبتمبر/أيلول 2001، والفشل البيِّن في إزاحة طالبان عن المشهد العسكري والسياسي في هذا البلد.
الملفت في الأمر هو الطريقة التي تسارعت فيها الأحداث، بما في ذلك تقدّم طالبان بسرعة مذهلة وسيطرتها على كابول منتصف الشهر الجاري، بصورة سلمية وبلا إراقة دماء، مع إعلانها الصريح بالعفو عن المهزومين. ترافق ذلك مع “تبخر” الجيش الأفغاني وهروب الرئيس، والإجلاء المرتبك لباقي الرعايا الغربيين والأفغان الهاربين من الذكريات المرة لحكم طالبان السابق.
بالنتيجة، وصلت طالبان إلى الحكم للمرة الثانية بخسائر تكاد لا تُذكر، ومن دون ممارسات انتقامية واسعة النطاق، لكن مع غياب المظاهر الاحتفالية لدخولها العاصمة كابول، وقد حلت مكانها مشاهد المواطنين الذين يتعلقون بالطائرات الأميركية المغادرة، لتشي بحجم المخاوف التي تراكمت في أثناء حكم الحركة في النصف الثاني من التسعينات، وممارساتها التي حوّلت أفغانستان إلى بلد يعيش خارج سياق حركة التاريخ، بحجة تطبيق الشريعة طبق الأصل. فكيف ستطبق طالبان الشريعة هذه المرة، وهل سيكون ذلك بدرجة أكبر من التسامح، انسجاماً مع خطابها المعتدل الجديد؟ الإجابة هنا عمليةً بالفعل، كما يردد الأميركان، المستعجلون في أن يتحولوا إلى إدارة الحدث عوضاً عن الانخراط فيه، كسياسة صارت متّبعة في أكثر من بلد.
لكن نشوة النصر كانت في مكان آخر، عند معتنقي الحركات العقائدية اليسارية، التي لم تقتنع بعد بأنها تستند في مرجعياتها إلى ماركسية ثورية مثلت انحرافاً فكرياً تاريخياً فرضه التطور الرأسمالي العنيف لمرحلة ما بعد التنوير في أوروبا، بعد أن ثبّت أقدامه بما لا يمكن مجاراته أو مقاومته إلا من خلال آليات عمله، وليس عبر الركض بمحاذاته والصراخ على هامشه.
وكانت النشوة أيضاً عند مناصري الحركات الجهادية، كانحراف تاريخي آخر وأكثر تجذُّراً، وقد اتخذت من التطور الاقتصادي والاجتماعي غير المتوازن حجةً لإثبات مشروعيتها، وتأكيد قناعاتها العقائدية غير المتطابقة مع حقائق الحياة. لكن التحدي الأساس الذي تواجهه الحركات الإسلامية هو عدم قدرتها على التعامل مع الدولة الحديثة، وهو التحدي الذي واجهته الثورة الإسلامية في إيران، وتم إخراجه بالطريقة الحالية المعروفة، التي ليس بمقدورها الاستمرار والحفاظ على الزخم إلا من خلال التمدد في الخارج، ضمانةً لـ “استمرار الشعلة الثورية”، حتى لا يحلّ الركود في المركز، كمقدمة للتحلل والموت، كما حدث للتجربة السوفياتية.
طالبان قد تسير في هذا الاتجاه، كتوطين للجهاد السني في دولة مجاورة لإيران الشيعية، بعد أن نضجت خلال عشرين سنة لتفكر بالاستقرار على طريقتها، فلربما اقتنعت الحركة بأن تقديم بعض التنازلات في الداخل قد يكون أكثر جدوى من استمرار القتال، وبأن الوقت قد حان ليستريح الثوار ويحتفلوا بالنصر في جنة الدولة. كما أثبتت الأحداث الأخيرة بأن قوى الصراع الأفغانية، جميعها، قد تعبت من الحرب، وبأنه ليس لديها ذات الرغبة العنيفة بإراقة المزيد من الدماء، ولو أن ذلك قد يكون أمراً مؤقتاً وحسب.
لكن، كيف يمكن لطالبان أن تدير الدولة وهي لا تمتلك غير الاتكاء على العصبيتين القبلية والدينية الحاف، وأي اقتصاد ستديره وهي لم تعرف غير تجارة الأفيون، وأي تسامح يجري الحديث عنه وهي لم تعرف غير تطبيق الحدود؟ لا إجابات مقنعة عن مثل هذه الأسئلة وغيرها في الوقت الحاضر، مع أنه يمكن النظر إلى ما يحدث من زاوية أخرى، وهي أن تكون طالبان قد فهمت اللعبة الدولية بعد أن صارت ترى تشابكاتها عبر ثقوب نقابها الأيديولوجي، وأنها يمكن أن تؤدي دوراً ما في زحمة التنافس على ملكية طريق الحرير الجديدة، الطريق التي تحاول الصين الهيمنة عليها، وهنا يكمن جزء من سر الاتفاق الأميركي الطالباني.
في هذا الدور، ستفترق طالبان، جزئياً، عن الطريق الإيرانية، التي تم من خلالها فرض السياسة بالقوتين العارية والناعمة، فتكتفي بقطف ثمار التنافس الدولي، والتنعُّم بحصتها من ريع الأنشطة الاقتصادية لهذه الدول وغيرها، ما يجعلها تنال ثقة المجتمع الدولي. لن تكون العقبات الداخلية التي تواجه طالبان في هذا المسعى عصية على الحل، فالتخلص من إرث المقاومة لأحمد شاه مسعود ممكن، وقد وجهت طالبان إنذارها الصارم لنجله مؤخراً في ضرورة التسليم، بينما يمكن أن تنتظر أكثر لحل مشكلة ùقومية الهزارةù في الغرب، والمرتبط بطبيعة العلاقة مع نظام الملالي مستقبلاً، وفقاً للنسبة بين الأيديولوجي والسياسي في المسار الذي ستسلكه الحركة.
أما ما يتعلق بالاحتفاء بالنصر الطالباني على الولايات المتحدة، فهو عمل من لا دور لهم غير انتظار المتغيرات للتعبير عن عواطفهم العقائدية المُفوَّتة والتنديد بالإمبريالية العالمية، كاليسار الصوتي الخارج من حركة التاريخ، من جهة، وأخوة المنهج، الذين يلوكون عنادهم التاريخي بلا كلل أو ملل، من جهة ثانية، ولا خير يُرتجى من هؤلاء وأولئك!