آخر الأخبار، حتى يوم أمس، أن الشرطة الفرنسية عثرت على 776 صورة إباحية في هاتف طارق رمضان، وأجهزته الإلكترونية. يمكن لخبر كهذا ألا يثير اهتمام أحد لو لم يكن المذكور حفيد مؤسس الإخوان المسلمين، حسن البنّا، وأحد أبرز الدعاة الإسلاميين في الغرب، إضافة إلى سجله المهني الحافل بوظائف أكاديمية مرموقة، وإسهامات فكرية في كتب، ومقالات، وندوات، ومحاضرات، في مشارق الأرض ومغاربها.
ويبدو أن ورطة الأخ طارق عويصة فعلاً، فهناك خمس نساء يتهمنه بالاغتصاب، اعترف في أكتوبر الماضي بعلاقات جنسية، بالتراضي، مع اثنتين منهن. وكان قد أُعتقل في فرنسا، في أوائل العام الحالي، وخرج من السجن، قبل أيام، بكفالة تبلغ ثلاثمائة ألف يورو، شريطة ألا يغادر الأراضي الفرنسية، وأن يثبت حضوره في مركز للشرطة مرّة كل أسبوع. ويبدو، أيضاً، أن الورطة تعود إلى ميوله السادية، وهذا ما فضحته رسائل نصيّة تبادلها مع إحدى النساء.
وبقدر ما يعنيني الأمر، وباستثناء الميول السادية، والاغتصاب، فإن علاقات أقامها الأخ طارق بالتراضي، لا تؤهلني للحكم عليه، بالمعنى الأخلاقي، بقدر ما تضعه في علاقة إشكالية مع خطابه الديني الذي يُعبّر عنه، ويُسوّقه، ويستثمر فيه، ويستمد منه، رأسماله الرمزي، ومكانته المهنية والاجتماعية والفكرية. فخطابه الديني هو الذي يدلنا على حقيقة ما في هوية الباطن والظاهر لديه من انفصام، وهو الذي يُدينه، ويحكم عليه، سيّان كان الأمر بالتراضي أو غيره.
أجد هذا التحفّظـ، الشخصي، ضرورياً، لأن الكثيرين ممن يمكن أن ينقضّوا عليه، لأسباب أخلاقية وراء قناع الاستقامة، والتقوى، والتسامي، خاصة في العالم العربي، لا يقلّون عنه كذباً وانفصاماً بين حقيقة الظاهر والباطن في حيواتهم الشخصية. وهذا مربط أوّل للفرس.
أما الثاني، الذي يمثل ممراً إجبارياً، والذي سنكتشف، بعد قليل، أنه وثيق الصلة بالأوّل، فيتمثل في صلة النسب بين المذكور، ومؤسس جماعة الإخوان المسلمين، أي الرافعة التنظيمية والأيديولوجية لليمين الاجتماعي والسياسي والديني، في العالم العربي، على مدار تسعة عقود مضت. فمن بين ما لا يحصى من ردود الفعل المُحتملة، على فضيحة الأخ طارق، ستجد من يقبض على تلك الصلة، على طريقة “وجدتها“، للتدليل على انفصام الظاهر والباطن في تاريخ وسلوك الجماعة، والإسلام السياسي عموماً.
وإذا كان في “وجدتها“ هذه ما يفيد، أحياناً، في المناكفات الأيديولوجية، وحملات التشهير السياسي، فإنه لا يصلح، ولا يبدو سبباً كافياً، لنقد ونقض بنية الإسلام السياسي، فالمشكلة ليست في الفصام بين الظاهر والباطن: ماذا لو كان الفصام غير موجود في الواقع، ومجرّد حالات فردية؟ أيعني هذا أن مشروعهم السياسي والاجتماعي معقول ومقبول؟
المشكلة، إذاً، هي المشروع السياسي والاجتماعي، الذي يرفع الديني فوق القومي، والطبقي، والاجتماعي، ويعرقل محاولات بناء هوية توحيدية واحدة وموّحَدة للوطن والمواطن، بقيم ومفاهيم الدولة الحديثة، وبمعايير حقوق الإنسان، كما نصّت عليها المواثيق الدولية ذات الصلة، بما فيها، وعلى رأسها، المساواة الكاملة والشاملة بين الجنسين.
وبهذا نصل إلى مربط ثالث: فالأخ طارق “مُفكّر وداعية إسلامي“، كما يُعرِّف نفسه، ويُعرَّف، في مناسبات وأماكن مختلفة. ولا ينبغي، في هذا السياق، التقليل من دوافع نفسية وثقافية، وُلدت وترعرعت في بيئة اجتماعية وسياسية وثيقة الصلة بالتاريخ العائلي.
فجدّه لأمه مؤسس الجماعة التي وُلد من رحمها الإسلام السياسي، على اختلاف راياته وتسمياته. وأبوه أوّل من أقام رأس جسر للإسلام السياسي في الغرب، في زمن الحرب الباردة، بمبادرة وتشجيع من الأميركيين والمحافظين والرجعيين العرب، في سياق الحرب على القوميين واليساريين، ومجابهة “التمدد الشيوعي“، أي بصريح العبارة: لطرد قضايا المواطنة، والحرية، والعدالة الاجتماعية، والتوزيع العادل للثروة، والحداثة والتحديث، من قاموس السياسة في العالم العربي.
لذا، لن تنجو كل محاولة لاستكمال الإرث العائلي، على الأرجح، من وجود “بصمات“ جينية وثيقة الصلة بظروف نشأة المشروع الأصلي، وتقلّباته، وصفقاته، وعلاقاته، وكلها مسكونة باحتمال العثور على انفصام من نوع ما، فرضته ضرورات “الشغل“ و“البقاء“، بين الظاهر والباطن. وفي سياق كهذا يصبح الانفصام في حالته عضوياً، ليتجاوز مسألة علاقات جنسية بالتراضي أو غيره، إلى بنية الفكر نفسه، ومدى ما يسم علاقته بالحقيقة من انتقائية، وخفّة يد، وبهلوانيات لغوية ومفهومية. وهذا مربط للفرس يأخذنا إلى مربط آخر.
بما أن الأخ طارق نشأ في الغرب، وتعلّم في مدارسه، ونصب “بسطته“ الأيديولوجية في أسواقه الفكرية، والمهنية، كان من غير الممكن لأسباب مهنية في سوق تحكمها العلاقة بين العرض والطلب، إعادة تكرار الخطاب الأصلي بمفرداته القديمة والتقليدية، لذا عثر في فكرة “الإسلام الأوروبي“ على ما يجعل منه “مودرن“ على طريقة داعية آخر من نوع عمرو خالد، مع ربطة عنق، أيضاً، ولكن بلغات أوروبية مختلفة، ومع جمهور من نوع آخر.
وقد تصادف صعوده المهني، بعد نهاية الحرب الباردة، وبداية الكلام عن “صراع الحضارات“، والحرب على الإرهاب، مع ازدياد الطلب في السوق الغربية على “الخبراء“، من محللين، ومفكرين، ومفسرين، ومؤرخين. فكان هذا هو الواقع الذي وفّر الشروط الموضوعية لاستكمال المشروع العائلي. ففي مجرّد أن تكون الحفيد، ووريث هذا التاريخ العائلي، ما يضفي عليك أهمية استثنائية حتى قبل أن تفتح فمك بالكلام. وما أدراك إذا كان الكلام نفسه من تلك القماشة، ولكن بإنكليزية وفرنسية فصيحتين، ومهنة جامعية مرموقة.
لا أعرف كم سيبقى من “الإسلام الأوروبي“، ومن طارق رمضان. لن يبقى على الأرجح سوى قضية الاغتصاب، وربما أربعة مرابط للفرس.