لا يمكن لمَن كَتَبَ صفقةَ القرنِ وبنى تفاصيلَها أن يدافع عنها عندما يُواجَهُ بالقرارات الدولية والحقوق الوطنية والحقائق التاريخية، فهو يعرف أنه يؤسّس لِما هو آتٍ وليس لِما مضى.
ولا يمكن لمَن يتابع تفاصيلَ الصفقة وطريقة عرْضها أن يدافع عن فرضية «الحل النهائي» التي يَعتقد دونالد ترامب انه تَمَيَّزَ بها «تاريخياً» عن أقرانه، فلا صفقة بلا شركاء ولا حلّ بلا أصحاب القضية.
ويمكن لمَن يرفض الصفقة من الفلسطينيين والعرب أن يعقد اجتماعات للتشديد على العودة إلى مرجعيات المفاوضات السابقة والمبادرة العربية ويعتبرها «الحلّ الأدنى» المقبول به، كما يمكن أن يتظاهر أمام السفارات الأميركية فيشتم ويندّد… وربما يذهب في ردود الفعل إلى إظهار الغضب الساطع عبر تكسيرٍ هنا أو تفخيخ هناك أو تفجير في أماكن عدة.
… ولكن، بعيداً عن الصفقة وتفاصيلها وخريطتها – المسخ، وإغراءاتها المادية، وتربيحها الفلسطينيين «جميلة» القبول بدولة وعاصمتها القدس الشرقية وحق العودة الجزئي، لا بدّ من محاولة تفسير سبب الوصول إلى الصفقة بهذه الأطر.
بادئ ذي بدء، لم تعُد للفلسطينيين سلطة وطنية واحدة تمثّلهم وتتولى المفاوضات باسمهم فتُقَرِّر وتُناوِر وتَقْبل وترفض وتتشدّد حيث يجب وتُبْدي مرونةً حيث يجب. ولا يمكن لأي دولة في العالم أن تتعامل مع قضيةٍ ضخمةٍ بحجم قضية فلسطين من خلال سلطةٍ مهيضة الجناح، تسعون في المئة من اهتماماتها يتركز على كيفية الحدّ من نفوذ حركة «حماس» التي صارت جزءاً من هلالٍ مُمانِعٍ عابِرٍ للحدود.
ولا يعتقدن أحد أن ما حصل سابقاً بين السلطة و«حماس» تفصيلٌ يمرّ مرور الكرام عند عرّابي التسوية، فهو ليس شأناً داخلياً أو من «حواضر البيت» بل له تداعياتٌ ومحاذير وحسابات مستقبلية مختلفة تتعلّق بأمن الأطراف المتصارعة على هذه الأرض. باختصار، دخلتْ إيران على خط التسوية وفق حساباتها ومصالحها منذ اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية (وبالتالي السلطة) بإسرائيل، وصدرتْ تصريحاتٌ من المرشد الأعلى في الجمهورية الإسلامية رافضة لما يجري في أوسلو ومدريد وواشنطن وكامب دافيد، وذهب يومَها «حزب الله» في لبنان إلى المطالبة بخالد اسلامبولي يقتل ياسر عرفات.
كانت العملياتُ الانتحارية التي قامت بها «حماس» وصواريخها والسفينة الإيرانية التي ضُبطت مُحَمَّلةً بالأسلحة أمام شواطئ غزة هي مَن حاصَرَ السلطةَ الفلسطينية قبل أن تُحاصِرَها إسرائيل. وبعد رحيل عرفات، حاول أبو مازن أن يُقْنِعَ «حماس» بجدوى قيام سلطة وطنية قوية تعمل لمصلحة الفلسطينيين وقضيتهم وليس لمصلحة غيرهم، على أن تتبنى هذه السلطة مختلف الهواجس والمطالب وتطرحها بصوتٍ واحد لكسْب مصداقية واحترام العالم، أقلّه الدول التي لا تدور في فلك أميركا والمتعاطفة تاريخياً مع قضية فلسطين.
حاولت المملكة العربية السعودية بعد حواراتٍ مع كثير من دول العالم أن تُساهِمَ في وجودِ حدٍّ أدنى من سلطة وطنية تستقطب شرعيةَ تَفاوُضٍ، فأعدّت ورقةَ مبادئ للمصالحة وأَقْسَمَ قادةُ «حماس» و«فتح» أمام الكعبة في مكة المكرمة على الالتزام بها، لكن الكلمة العليا كانت خرجتْ نهائياً من فلسطين إلى قائد المحور المُمانِع، وتم تمزيقُ ورقةِ المصالحة بالدم من خلال أبشع مجزرةٍ شهدتْها المدنُ الفلسطينيةُ سَقَطَ فيها من الفلسطينيين أكثر مما سقط في كل المجازر التي ارتكبتْها عصابات هاغاناه وشتيرن الصهيونية في مرحلة النكبة وما سبقها، وتفوّق مَنْظَرُ دخولِ المقاتلين إلى غرف العمليات التي تداوي الجرحى ورَمْيِهم من الطبقات العليا على مَنْظَرِ قَتْلِ الإسرائيليين للمُنْتَفِضين في وجه جيشهم، كما كشف مشهدُ مئات المقاتلين التابعين لفصائل منظمة التحرير وهم يمشون عراة في شوارع غزة عريَ السلطةِ الفلسطينية.
باختصارِ، تَحَرَّرَتْ غزة من السلطة والتحقتْ بسلطة المُمانَعَة، وبرّر مسؤولو «حماس» انحيازَهم لإيران بأنها الطرف الوحيد الذي ما زال يدعمهم بالمال والسلاح، ثم اكتشف هؤلاء خلال الثورة السورية أن غيابَ دعْمهم لعمليات الإبادة التي تمّت في غالبية المدن والقرى وبينها مخيم اليرموك الفلسطيني أدى إلى رفْع الغطاء الإيراني عنهم مرحلياً، حتى أن قادة «حماس» سمعوا في تلك الفترة من مسؤولين مُمانِعين خلال إحدى الحروب الإسرائيلية على غزة عباراتٍ من قبيل: دبّروا حالكم.
الموضوع الآخَر المترافق مع غياب سلطة وطنية قوية هو أن فلسطين لم تعُد القضيةَ المركزيةَ للعرب واقعياً مهما كانت كذلك في القصائد والخطب والشعارات الرنانة. وبعيداً عن الخطايا التي ارتكبتْها قياداتٌ فلسسطينية في الأردن ولبنان والكويت من خلال انغماسها في مشاريع غيرها وإساءاتها الكبيرة لمَن احتضنها ودَعَمَها، فإن التهابَ الجسد العربي من المحيط إلى الخليج راهناً ليس فيه حرفٌ من اسم فلسطين.
لا تَقُلْ لي إن العراقي سيهتمّ بخريطة «القرن» أكثر من اهتمامه بإخراج النفوذ الإيراني من بلده ومكافحة الفساد ووقْف الهدر وحلّ الميليشيات، ولا تَقُلْ لي إن السوري المطحون بديكتاتورية النظام وبَراميله وصواريخ الروس وقذائف إيران والمهجر داخل بلده وخارجها سيهتمّ بكيفية تحديد المساحة الجغرافية لقرية أبو ديس وقُرْبها أو بُعْدها عن القدس الشرقية، ولا تَقُلْ لي إن اللبناني الذي استفاق على أكبر عملية نهْبٍ في التاريخ للسلطة عبر حزب الله، وللخزينة والموارد عبر فسادِ الطبقة السياسية كلّها، سيهتمّ بحجم النَفَق بين الضفة وغزة أكثر من اهتمامه بإعطاء المصرف له 200 دولار في الأسبوع. ولا تَقُلْ لي إن الليبي الذي تَخَلَّصَ من ديكتاتورٍ فوجد مثله في كل شارع عبر أمراء الحرب والتدخلات العسكرية الأجنبية يهتمّ بالاستثمارات المليارية الواردة في الخطة أكثر من اهتمامه باستعادة بلاده من الميليشيات والتطرف، ولا تَقُلْ لي إن دول الخليج كلها ستهتمّ بمساحة الاستيطان أكثر من اهتمامها بالأمن الخاص والاقليمي وإبعاد الصواريخ عن منشآتها سواء أتت من القاعدة الحوثية أو من القواعد الإيرانية… وقِسْ على ذلك في كل دولة من حيث الأولويات وبعضُها مصيري ويتعلّق بالوجود نفسه.
تدميرُ السلطة الفلسطينية وانتهاء مركزية القضية قادا إلى صفقة القرن، وما لم يَعُدْ الفلسطينيون إلى فلسطينهم، وما لم تتوقف فصائل عن لعْب دور الأداة لآخَرين… فقد يأتي يومٌ يتحدّث فيه الفلسطينيون عن هذه الصفقة وكأنها «حلمٌ تَبَخَّرَ».
alirooz@hotmail.com
الرأي