توحد شطرا فيتنام عام 1975 بعد ثلاثة عقود من الحروب التي قاتل فيها الشيوعيون المستعمرينَ الفرنسيين ومن ثم الفيتناميين الجنوبيين وأعوانهم الأمريكيين الذين تدخلوا عسكريا في هذه البلاد بحجة منع سقوطها في أحضان الشيوعية كما هو معروف.
ومذاك قررت قيادة الحزب الشيوعي الحاكم رمي مأسي الماضي خلف ظهرها والعمل من أجل تحويل فيتنام الموحدة إلى بلد مزدهر اقتصاديا وإن تطلب ذلك التعاون مع الأعداء السابقين. تلك الرؤية الصائبة التي تعلمها حكام فيتنام الشيوعيين من تجربة اليابان بعد الحرب الكونية الثانية ساهمت في تحول البلاد إلى واحدة من أسرع الاقتصاديات الآسيوية نموا.
صحيح أنها عانت في البدايات من مشاكل اقتصادية وعجوزات تجارية، بل ودخلت حربا قصيرة مع الصين وغزت كمبوديا المجاورة للإطاحة بنظام “الخمير الحمر”، وتألمت من تداعيات الأزمة الاقتصادية الآسيوية عام 2008، لكنها تمكنت من التغلب على كل العوائق ومضت تبني نفسها بإرادة حديدية إلى أن جاءت جائحة كورونا التي أثرت سلبا على اقتصادها من جديد وكشفت أوجه فساد كبير.
في يناير 1911 تولى قيادة الحزب الحاكم (أعلى سلطة في البلاد) نغوين فو ترونغ، خلفا لنونغ دوك مان الذي تقاعد من بعد شغل المنصب لمدة عشر سنوات. وفي عام 2016 اعيد انتخابه للمرة الثانية، وفي سبتمبر 2018 تم تعيينه رئيسًا للدولة بينما كان يشغل أيضًا رئاسة الوزراء وقيادة الحزب ، مما جعله أول زعيم فيتنامي منذ الثمانينيات يجمع كل هذه المناصب الرفيعة. وحينما انعقد المؤتمر الثالث عشر للحزب في يناير 2021 كان المتوقع أن يتنحى، لكن أعيد انتخابه لفترة ثالثة، في خرق للعرف السائد الذي يحدد زعامة الحزب لفترتين متتابعتين فقط. وقتها صرح قائلا بأنه لم يرغب في التجديد بسبب تقدمه في السن ومتاعبه الصحية، لكنه رضخ لرغبات “الرفاق”. وهكذ فإنه من المنتظر أن يستمر هذا المنظّر الشيوعي العتيد الحاصل على دكتوراه الفلسفة من موسكو في قيادة فيتنام حتى عام 2026 حينما ينعقد المؤتمر الوطني العام إلا إذا توفي خلال فترة زعامته الثالثة، خصوصا أنه أصيب في أبريل 2019 بجلطة دماغية خلال زيارة لمقاطعة “كين جيانغ”، ما أثر على قدرته على السفر داخليا وخارجيا، قبل أن يستعيد عافيته نسبيا.
والحقيقة ــ طبقا للمراقبين ــ هي أن التجديد لترونغ كان سببه فشل الحزب الحاكم في التوصل إلى اجماع حول من سيخلفه. ذلك أن خليفة الرجل المفضل “تران كووك فونغ”، الذي يعتبر يده اليمنى، شخصية لا تحظى بشعبية وتدور حولها قصص الكسب غير المشروع، وبالتالي من الصعب المجازمة باختيارها في وقت لا تزال فيه البلاد تئن من التداعيات الاقتصادية لجائحة كورونا وسط تبادل الاتهامات بين كبار المسؤولين حول الاخفاق والفساد. وبمعنى آخر فضل الحزب الحاكم الإبقاء على ترونغ كي يواصل قيادة القارب الفيتنامي ويسيطر على مشاكله بما له من نفوذ وإرث سياسي وحزبي.
يعتقد المحللون والمختصون في الشأن الفيتنامي من أمثال ألكسندر فوفينغ، الأستاذ في مركز الدراسات الأمنية في هونولولو (هاواي) أن صراعا مبكرا قد بدأ في هانوي لخلافة رجل البلاد القوي ترونغ البالغ من العمر حاليا 76 سنة. أما الدليل فهو قيام رفاقه الحزبيين باعلان الحرب ضد بعضهم البعض عبر ترويجهم لقصص فساد مزكمة للأنوف في محاولة لقطع الطريق على هذا الطامح أو ذاك. أما البروفسور ثاير الأستاذ الفخري بجامعة نيوساوث ويلز الاسترالية فقد زعم أن إصدار مذكرة توقيف مؤخرا بحق سيدة أعمال فيتنامية بارزة هو جزء من صراع النخبة على السلطة في هانوي.
إن غياب ترونغ عن المشهد سيفضي إلى فراغ كبير في السلطة. فللرجل تاريخ طويل في أروقة الحزب الحاكم ابتداء من عمله في التسعينات كرئيس تحرير لمجلة الحزب الرسمية، ثم منحه عضوية المكتب السياسي للحزب عام 1997، فانتخابه رئيسا للبرلمان عام 2006، وانتهاء بصعوده إلى المنصب القيادي الأعلى كأمين عام للحزب عام 2011. هذا ناهيك عن براعته القيادية التي تجلت في حكم البلاد وفق النظام الجماعي المركزي الذي أسسه “هو شي منه” عام 1969 قبل توحيد شطري فيتنام، وقدرته على كسب الشرعية والتأييد بعد قرارات الانفتاح والإصلاح الاقتصادي والسعي لإقامة علاقات تعاون قوية مع العدو الأمريكي السابق، وهو ما أكسبه تأييدا شعبيا أوسع بسبب تحسن مستويات المعيشة والنمو الاقتصادي المتصاعد. أضف إلى ذلك، الإصلاحات التي أدخلها في أجهزة الحزب الشيوعي منذ عام 2012 والتي تجلت في الأخذ بمبدأ النقد ومحاسبة المخطئين والمتجاوزين من قبل المكتب السياسي للحزب.
على أن ما يـُعاب عليه في الخارج هو قبضته الحديدية وقمعه للمعارضين والكتاب الداعين للتعددية السياسية وإطلاق الحريات.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي