سلطت العديد من الصحف السويسرية اهتمامها على موجة الاحتجاجات المندلعة في العراق ولا سيما مع اتساع نطاقها ليشمل محافظة كربلاء ذات الأغلبية الشيعية ورأت أن الشعارات المعادية لإيران تعكس رفض الشارع العراقي لمشروع الهيمنة الإيراني وللنظام السياسي الفاسد القائم على المحاصصة العرقية والطائفية والذي فشل في تحقيق أبسط احتياجات المواطن العراقي في الحصول على فرصة عمل وشرب مياه نظيفة وتوفير شبكة كهرباء وصرف صحي قوية. الوضع في لبنان لا يبعد كثيرا عن مفردات الحالة العراقية.
“طهران في مأزق كبير”
كريستيان فايسفلوغ مراسل صحيفة نويه تسورخر تسايتونغرابط خارجي لشؤون الشرق الأوسط رأى أن إيران تقف حائلا دون الوصول إلى حل يُرضي المتظاهرين ويحقن المزيد من الدماء في شوارع العراق، وكتب يقول: “الرئيس العراقي ورئيس الحكومة وأكبر الأحزاب في البلاد مستعدون للاستسلام للضغوط المتزايدة في الشارع العراقي، لكن إيران لن تسمح بذلك ومستعدة لسفك مزيد من الدماء من أجل منع حدوث ذلك”.
في الواقع، يبدو أن مصير رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي أصبح محتوماً، ففي نهاية شهر أكتوبر الماضي، وافق زعماء أكبر تحالفيْن في البرلمان، رجل الدين الشيعي مقتدى الصدر وهادي العامري المؤيّد لإيران، على التخلص من عبد المهدي غير الحزبي وطرده من منصبه. لكن تزامناً مع هذا التطور الإيجابي، سافر قاسم سليماني، القائد الأعلى لفيلق القدس الإيراني، في نفس اليوم إلى بغداد. وهناك، طلب من العامري مواصلة دعم رئيس الحكومة العراقية، قائلاً في اجتماع مع مسؤولين أمنيين رفيعي المستوى: “نحن في إيران نعرف كيفية التعامل مع الاحتجاجات”.
أما ما يعنيه سليماني من “كيفية التعامل مع الاحتجاجات”، فقد تجلى بوضوح مع اندلاع موجة العنف ضد المتظاهرين والتي راح ضحيتها العشرات.
غضب المتظاهرين مصدره في الأساس جهاز الدولة الفاسدة، فأكثر من نصف السكان تقل أعمارهم عن 25 عامًا، ولكن ثلثهم يعانون من البطالة. والحصول على الوظيفة مرتبط بالمحسوبية ووجود علاقات جيّدة مع النخبة السياسية. لذلك، فإن الحركة الاحتجاجية لا تطالب فقط باستقالة الحكومة، ولكن بإصلاح نظام الحكم بأكمله. المتظاهرون يطالبون أيضا بإسقاط نظام المحاصصة السياسي القائم على أساس التوزيع العرقي والطائفي. فالرئيس على سبيل المثال لا بد أن يكون كرديًا، ورئيس الوزراء شيعيًا، ورئيس البرلمان سنيًا.
ومع ذلك، كلما تجلى التدخل الإيراني بشكل أوضح في الشأن العراقي، زاد الشعور بالرفض وارتفعت حدة الشعارات المعادية لإيران. ومن الواضح أن إيران تخشى من تراجع نفوذها في المنطقة بسبب الانتفاضات الشعبية أو من انتقال شرارة الاحتجاجات إلى الداخل الإيراني في أسوإ الحالات. طهران قلقة أيضا من “اتساع دائرة الاحتجاج بعد أن تجاوزت العاصمة والجنوب الشيعي لتصل إلى كربلاء والنجف، المدن الشيعية المقدسة في العراق”، حسب رأي كريستيان فايسفلوغ.
المراسل السويسري ذهب أيضا إلى أن العراق ليس لديه خطة للخروج من الأزمة الحالية بسبب اختلاف السياسيين حول استراتيجية الحل. فالرئيس العراقي برهم صالح يدعم مطالب المتظاهرين بإجراء انتخابات جديدة بموجب قانون انتخابي جديد ولجنة انتخابية جديدة. ويبدو رئيس الوزراء عبد المهدي مستعدًا من حيث المبدأ للإستقالة، إذا توافق البرلمان على ترشيح خليفة له. لكن بعد تدخل قاسم سليماني، يبدو الأمر أكثر صعوبة بالنسبة للعامري والصدر للاتفاق على أي شيء. من جهته، أكد مقتدى الصدر أن “بقاء رئيس الحكومة في السلطة سيؤدي إلى إراقة المزيد الدماء”.
عموما، وضعت الاحتجاجات الشعبية في العراق طهران في مأزق كبير. إيران التي تمكنت من بسط نفوذها في لبنان وسوريا واليمن بشكل مستمر في السنوات الأخيرة واستطاعت بمساعدة الميليشيات اليمنية من إرهاب العالم بهجمات صاروخية بدون طيار وصواريخ على حقول النفط السعودية، لا تملك اليوم جواباً مُقنعاً على الانتفاضات الشعبية في العراق ولبنان، ويبدو أن العنف الأعمى هو نهجها الوحيد في مواجهة أي تحديات.
إيران ترفض الحل السياسي في العراق
صحيفة تاغس أنتسايغررابط خارجي لفتت أيضا إلى أن الشيعة في العراق أصبحوا أكبر الرافضين للوجود الإيراني في البلاد وبدا ذلك واضحاً مع خروج مظاهرات في كربلاء ومهاجمة المحتجين القنصلية الإيرانية واستبدال علم النظام الشيعي في طهران بعلم النظام العراقي.
في مراسلته، نوه باول أنطون كروغر إلى أن “البطالة والفساد الممنهج ترتبط في نظر العديد من المتظاهرين ارتباطًا وثيقًا بالنظام السياسي القائم على المُحاصصة والمحسوبية والفساد في ظل غياب الخدمات الأساسية. فرغم أن النفط يدر المليارات في خزانة الدولة العراقية، تنهار شبكات الطاقة بانتظام وتنقطع الكهرباء تحت وطأة مكيّفات الهواء. أما في البصرة، ثالث أكبر مدن البلاد، وفي العديد من المدن والقرى الأخرى، لا توجد مياه صالحة للشرب. في ظل هذه الأوضاع خرج العراقيون وعلى رأسهم الشيعة إلى الشوارع، رغم أنهم أكبر المستفيدين من النظام الجديد بعد انهيار دولة صدام حسين”.
التحالفات الشيعية تشكل الأغلبية في البرلمان، لكن أقوى الفصائل بقيادة مقتدى الصدر ترفض بشدة النفوذ الإيراني المتفشي في بغداد ودعت إلى تشكيل حكومة من التكنوقراطيين، إلا أن الصدر اضطر في نهاية المطاف إلى التسوية مع الجماعات المؤيّدة لطهران.
منذ بداية المظاهرات وإيران ترفض الامتثال لمطالب المحتجين بإصلاح النظام السياسي في العراق وإصدار قانون انتخابي جديد. في هذا الصدد، توجه قائد الحرس الثوري قاسم سليماني، الذي يرسم بحكم الواقع خطوط السياسة الإيرانية في العراق، إلى بغداد وترأس اجتماعًا طارئًا لمسؤولي الأمن بدلاً من رئيس الوزراء العراقي عادل عبد المهدي.
من جهة أخرى، دعا رجل الدين الشيعي، آية الله العظمى علي السيستاني إيران إلى “عدم فرض إرادتها على الشعب العراقي”، ليُضفي بذلك شرعية على المطالب الشعبية. وبدوره “عرض رئيس الوزراء عادل عبد المهدي تقديم استقالته إذا تمكنت الأطراف من الاتفاق على خليفة له، لكن هذا السيناريو غير مُحتمل في ظل رفض الجماعات المتحالفة مع إيران له”، كما تقول الصحيفة.
وختم المراسل بالقول “العراق يعاني أيضا من نفوذ الميليشيات المسلحة الخاضعة لإيران والتي لعبت دورًا مهمًا في مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية. رسميا، تم دمج الميلشيات في جهاز الأمن العراقي لتكون تحت إشراف رئيس الوزراء. لكن الواقع يبدو مغايراً، حيث تتلقى بعض الفصائل الأوامر مباشرة من سليماني. بالإضافة إلى ذلك، فتحت بعض الميليشيات ما يسمى بمكاتب الأعمال ودخلت المجال الاقتصادي لتنافس بذلك العاملين في القطاع الخاص، رغم حصولها على 2.2 مليار دولار من ميزانية الدولة في زيادة عن العام السابق وهذه الحصة أكبر بمرتين ونصف عن ميزانية وزارة المياه، على سبيل المثال.
بالنسبة لإيران فإن وجود الميليشيات المسلحة التابعة لها وبالتالي بسط نفوذها في العراق يخدم إستراتيجيتن. الأولى تشكيل ثقل موازن للقوات الأمريكية في البلاد. والثانية ضمان الطريق البري المؤدي إلى سوريا ولبنان – طرق الإمداد للحرس الثوري في سوريا ولحزب الله في لبنان.
العراق ولبنان يتحديان الهيمنة الإيرانية
غير بعيدا عما ذهبت إليه الصحف السويسرية الناطقة بالالمانية، نشرت صحيفة لوتون الناطقة بالفرنسية يوم الأربعاء 6 نوفمبر الجاري تقريرارابط خارجي لمراسلتها في بيروت فيرجيني ليبورنيو، شددت فيه على أنه بالإضافة إلى رفضهم للنظم الفاسدة في كل من العراق ولبنان، استهدف المتظاهرون في البلديْن كذلك التأثير الإيراني داخل حدود بلدهما.
وتذهب المراسلة السويسرية إلى أن المتظاهرين المعسكرين في ميدان التحرير ببغداد يتنافسون في صياغة وابتكار الشعارات المناهضة لإيران، في الوقت الذي طغى فيه على جميع الشعارات عبارة “أيها الإيرانيون آخرجوا من بلدنا”. وينتشر هذا الشعار على جميع الحيطان وتردده جميع الأفواه. وعندما حاول المتظاهرون في جنوب العراق حرق القنصلية الإيرانية في مدينة كربلاء، كان ردّ النظام العراقي المدعوم من إيران والذي يأتمر بأوامره عنيفا حيث أطلقت قواته النار بدم بارد على المحتجين فقتلت منهم أربعة أفراد. وفي مدينة النجف، استبدل المتظاهرون اسم شارع “الإمام الخميني” باسم “شارع ثورة أكتوبر”.
“غياب منظومة عسكرية قوية”
تشترك التحركات الاحتجاجية في كل من لبنان والعراق في قواسم مشتركة عديدة، وفق تقرير صحيفة “لوتون” : فهنا وهناك يرفض المتظاهرون النظام الطائفي السائد، وانعدام الخدمات العامة، ومعدّلات البطالة المرتفعة، وكذلك استشراء مظاهر الفساد. ذلك أن “العراق تأتي في المرتبة 12 لأكثر البلدان فسادا في العالم، وتحتل لبنان المرتبة 42 من ضمن 196 بلدا”.
كذلك تشترك هذه التحركات الاحتجاجية في البلديْن في مناهضتها للنفوذ والهيمنة الإيرانية. وتعتقد جونيفير كافاريلاّ، مديرة قسم البحوث بمعهد دراسات الحروبرابط خارجي في واشنطن أن “المظاهرات قد بلغت هذا المستوى من القوة والاتساع بسبب التدخّل الايراني الرافض لأي تغيير حقيقي في العراق”، مضيفة أن “هذا الامر مفهوم لكون إيران هي التي أوصلت رئيس الوزراء العراقي الحالي إلى السلطة، فقاسم سليماني، قائد وحدة النخبة داخل الحرس الثوري الإيراني، هو مهندس التحالف الذي يحكم حاليا في العراق”.
وهكذا، فإن “كل نيل من استقرار الحكومة العراقية من شأنه أن يشجّع اللبنانيين على المضي قُدُما في تحركهم والمطالبة بالحد من النفوذ الإيراني. واستشعار هذا الخطر هو ما دفع السلطات الإيرانية إلى اتهام الدوائر المعادية لها بكونها هي التي تغذي حالة عدم الاستقرار في كل من لبنان والعراق، كما دفع وزير الخارجية الإيرانية إلى مطالبة السلطان اللبنانية بالإستجابة لتطلعات مواطنيها”، كما تقول جونيفير كافاريلاّ.
وفي لبنان نفسه، يشير التقرير إلى أن الاحداث لم تستثن حزب الله، حيث اتهمه المتظاهرون بأنه ضالع في الفساد. وعلى حد قول ماريا فونتابّي، كبيرة المحللين في مجموعة الأزمات الدوليةرابط خارجي، فإن “التأثير الإيراني في لبنان وفي العراق متشابه إلى حد كبير نظرا لغياب منظومة عسكرية قوية. هذا الفراغ استفادت منه إيران لتقوم بإنشاء قوات أمنية موازية وشبه رسمية، حتى وإن اختلفت ظروف نشأة هذه القوات في البلديْن”. ففي لبنان، وضع حزب الله نفسه منذ حرب 2006 ضد إسرائيل بالخصوص في طليعة الدفاع عن البلاد، أما في العراق فقد ظهرت للوجود في أتون الحرب على “تنظيم الدولة الإسلامية”. ثم إن الواجهات السياسية لهذه القوات سواء في لبنان أو في العراق هي في تبعية شديدة لمصدر القرار في إيران”.
تدخّل في المجال الإقتصادي
هذه القوات الامنية الموازية “أصبح لها تأثير قوي على شبكات المصالح الإقتصادية”، تضيف الصحيفة السويسرية، حيث “تضاعف هذا التأثير وازدادت أهميته مع اتساع دائرة العقوبات الأمريكية على إيران، إذ باتت الجمهورية الإسلامية تراهن على حلفائها الإقليميين في مسعاها لتجاوز التأثيرات المدمرة لتلك العقوبات”.
ولئن بدا الحراك في لبنان مترددا بين مواصلة الاحتجاجات بعد استقالة رئيس الوزراء هناك وسقوط حكومته وبين التوقّف عنها، فإن الوضع في العراق يبدو “مُقدما على المزيد من التصعيد حيث يتمسّك المتظاهرون بمواصلة الاحتجاجات حتى سقوط النظام بكل رموزه، ولا ترهبهم تهديدات حكومة بغداد ولا حلفائها في طهران”، حسب رأي صحيفة “لوتون”.