ظهرت الكثير من التكهنات حول مقابلة صوتية تم تسريبها مؤخراً مع وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، من بينها واقع ظهوره قبل وقت قصير جداً من انتخابات الرئاسة الإيرانية المرتقبة في 18 حزيران/يونيو على الرغم من أنها أجريت قبل أشهر وفقاً لبعض التقارير.
وأحد التفسيرات المحتملة لذلك هو أنه لم يتم تسريب الشريط من قبل معارضي ظريف، بل من قبل زملائه المسؤولين في دائرة الرئيس حسن روحاني، الذين كانوا يبحثون عن فرصة للتفاوض مع الولايات المتحدة على الرغم من أن اتخاذ القرارات النهائية بشأن مثل هذه الأمور يتجاوز نطاق سلطتهم. وإذا كان الأمر كذلك، فمن المفترض أن تكون المقابلة بمثابة تحذير للشعب الإيراني.
وكان موضوع هذا التحذير الظاهري ذو شقين. أولاً، أوضح ظريف أن النزعة العسكرية المخفية وراء المظهر المدني للحكومة ستصبح أقوى بكثير بعد الانتخابات المقبلة، وربما يبدأ ذلك مع فوز مرشح تابع لـ «الحرس الثوري الإسلامي». ثانياً، كشف الوزير عن مدى دور موسكو في سياسة إيران الإقليمية وعلاقتها الوثيقة بقادة «الحرس الثوري» والسياسيين المحافظين، حيث اتهم صراحةً «فيلق القدس» – أقوى ذراع في «الحرس الثوري» – بأنه “يتأثر بشدة بروسيا ويتعاون معها.”
ادعاءات حول «فيلق القدس»
لطالما افترض العديد من مراقبي الشؤون الإيرانية وصانعي السياسات في الغرب أن النظام السياسي في إيران يقوم على السيادة المزدوجة بين مركزين للسلطة: أحدهما يتألف من مؤسسات ديمقراطية ويدعمه القطاع الخاص والطبقة الوسطى الحضرية ذات النزعة الغربية، والآخر يضم مؤسسات غير ديمقراطية وصانعي قرارات يوجههم المرشد الأعلى ويشكلون الركيزة الأيديولوجية للنظام ذات الأفق الضيق والمعادية للغرب. ومن خلال مراقبة الصراعات على السلطة والانقسامات السياسية بين هذين المركزَين للسلطة، سعى المسؤولون الغربيون في كثير من الأحيان إلى فتح قنوات مع المعسكر الأول من أجل إيجاد مخرج من الأزمات الإقليمية المختلفة. وبالتالي، كان أحد اعتباراتهم في التعامل مع إيران هو ما إذا كانت سياسة معينة قد تقوّي “المعتدلين” أو تؤذيهم.
ومع ذلك، أصبح ظريف الآن أرفع مسؤول يدحض هذه الفرضية ويقر “بعدم وجود سيادة مزدوجة في إيران فعلياً”. وبدلاً من ذلك، يقوم النظام على السيادة الوحيدة لآية الله علي خامنئي، الذي هو ليس المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية فحسب، بل القائد العام للقوات المسلحة، بما فيها «الحرس الثوري» أيضاً.
ويستفيض ظريف في الحديث عن هذه التركيبة مع تقدم المقابلة المسرّبة، حيث يصف كيف أن قاسم سليماني – القائد العسكري الراحل الذي أوصل «فيلق القدس» إلى مستويات غير مسبوقة من الشهرة والنفوذ قبل وفاته العام الماضي – غالباً ما “ضحّى بالدبلوماسية من أجل ساحة المعركة، بدلاً من العكس”، في إشارة إلى العمليات العسكرية لـ «فيلق القدس» في جميع أنحاء المنطقة. على سبيل المثال، يروي ظريف كيف أنه طلب مراراً من سليماني (ولكن دون جدوى) التوقف عن استخدام طائرات النقل المدنية الرئيسية للخطوط الجوية الإيرانية لإرسال العتاد إلى نظام الأسد في سوريا ولأغراض عسكرية أخرى: “بعد أن بدأت إيران بشراء الطائرات من [شركتي] «بوينغ» و«إيرباص» وتم شطب اسم شركة الخطوط الجوية الإيرانية من قائمة الإرهاب الأمريكية، زاد قاسم سليماني عدد رحلات شركة الطيران إلى سوريا. وأخبرني [وزير الخارجية الأمريكي السابق جون] كيري أنه منذ شطب الخطوط الجوية الإيرانية من القائمة، تضاعفت رحلاتها إلى سوريا ست مرات”. ويدّعي ظريف أن هذا الارتفاع في عدد الرحلات الجوية كان مفاجأة له. علاوة على ذلك، عندما سأل سليماني عن سبب استخدام «فيلق القدس» للخطوط الجوية الإيرانية بدلاً من الطرق الأخرى، زعم أن سليماني أجاب: “الخطوط الجوية الإيرانية أكثر أماناً.”
وبالنظر إلى عدد المرات التي تذكر فيها المقابلة أن سليماني يفرض إرادته على فريق السياسة الخارجية الذي يترأسه روحاني، تبدو شكاوى ظريف بمثابة تحذير بشأن المستقبل بقدر ما هي سرد للماضي. ووفقاً له، فإن «فيلق القدس» هو أكثر من مجرد جناح إقليمي رئيسي لـ «الحرس الثوري» الإيراني – فهو يتمتع أيضاً بأقوى كلمة في السياسة الخارجية بشكل عام والسياسة النووية بشكل خاص، بل إنه قام باستعراض عضلاته في الساحة السياسية في بعض الأحيان. ففي عام 1999، على سبيل المثال، ساعد سليماني في إعداد رسالة هدد فيها خمسة وعشرون من أقوى قادة «الحرس الثوري» الرئيس الإصلاحي محمد خاتمي في أعقاب احتجاجات طلابية واسعة النطاق.
ومن وجهة نظر ظريف، تثبت مثل هذه الحوادث أن «فيلق القدس» يعتبر أن صلاحياته ومهامه تمتد إلى ما هو أبعد من الشؤون الإقليمية والعسكرية. ويعتقد قادته أنهم يملكون الشرعية اللازمة للتدخل في الشؤون الداخلية وتحديد التوجهات السياسية للبلاد كما يحلو لهم، لا سيما في أوقات الأزمات، ولم تتغير هذه العقلية بعد رحيل سليماني. لذلك يبدو أن ظريف يلمّح إلى أن «فيلق القدس» سيلعب دوراً رئيسياً في تحديد نتائج الانتخابات الرئاسية المقبلة، حتى أكثر من الناخبين أو الفصائل العسكرية المتنافسة.
مطالبات حول روسيا
أثناء المقابلة أشار ظريف أيضاً من خلال عدة تلميحات صريحة إلى روسيا. وبذلك يلمح ضمنياً إلى أن «الحرس الثوري» ليس موحداً، وأن أقوى فصائله هو ذلك الذي يتمكن من إقامة علاقات وثيقة مع جهات أجنبية قوية على غرار موسكو. وعلى كل حال، فإن سياسات إيران وطموحاتها الإقليمية تمهد الطريق أمام صراعات النخب على السلطة في الداخل، مما يوفر الوسائل والغايات اللازمة لصنع السياسات محلياً. إن وجود علاقات لا مثيل لها مع روسيا يمنح «فيلق القدس» الثقة بالنفس التي يحتاجها لتبرير تدخله في العديد من المجالات التي لا صلة لها بمهمته كفرع عسكري مخصص للحملات الخارجية.
ومن خلال تصريح ظريف بشكل لا لبس فيه بأن «فيلق القدس» وموسكو يرتبطان بعلاقة وثيقة، أشار أيضاً إلى أن هذه العلاقة غير متكافئة. ووفقاً لما قاله، أرغم فلاديمير بوتين إيران على إرسال قوات برية إلى سوريا: “كانت رحلة سليماني إلى روسيا عام 2015 مبنية على إرادة موسكو، وليس إرادتنا. كانت إرادة روسيا تهدف إلى تدمير إنجاز وزارة الخارجية. هذا هو سبب دعوتها لسليماني”. ويتناقض هذا التوصيف تناقضاً حاداً مع الحجج المتكررة بأن سليماني جرّ بوتين إلى الصراع السوري. وعلى حد تعبير ظريف، “دخل بوتين الحرب عن طريق القوات الجوية، لكنه جرّ القوات البرية الإيرانية إلى الحرب أيضاً. لم يكن لدينا قوات برية في سوريا في ذلك الوقت.”
ويصر ظريف أيضاً على أن روسيا عارضت «خطة العمل الشاملة المشتركة» وعملت بشكل وثيق مع «فيلق القدس» لتقويض الاتفاق النووي، على الرغم من أنها ساعدت في التفاوض على وضعه. ومن وجهة نظره، تركز سياسة روسيا على التأكد من أن إيران تبقى التحدي الأول لواشنطن في المنطقة، وبالتالي تحويل انتباه أمريكا عن موسكو.
وقد تكون إشارات ظريف المتكررة إلى روسيا بمثابة تحذير بشأن دورها المحتمل في الانتخابات والسياسة الداخلية الإيرانية بشكل عام.
والأسئلة التي تطرح نفسها هنا هي، إذا كانت موسكو قد اخترقت قلب عملية صنع القرار لدى أقوى فصيل في «الحرس الثوري»، وإذا كان لـ «فيلق القدس» مصلحة كبيرة في انتقال السلطة الوطنية، فما الذي يمنع الروس من مساعدة أوساط المرشد الأعلى على جلب رجل عسكري إلى السلطة في الانتخابات المقبلة؟ والأهم من ذلك، ما الذي يمنعهم من التأثير على عملية اختيار خليفة خامنئي في النهاية وإنشاء نظام أكثر عسكرة من بعده؟
رد فعل النظام على التسرب
في مقال افتتاحي هذا الأسبوع، حاول ممثل المرشد الأعلى في صحيفة “كيهان” حسين شريعتمداري أن يقلل من أهمية مقابلة ظريف باعتبارها حيلة سياسية: “لا ينخدعن أحد، فبخلاف ما ادعاه بعض المسؤولين الحكوميين، لم يكن شريط السيد ظريف سرياً، وقد تم إنتاجه بهدف نشره علناً. ولم يكن ظريف المسؤول الرئيسي عن الشريط، بل كان يتحدث باسم حكومة [روحاني]، وكان يخاطب الإدارة الأمريكية وليس الشعب الإيراني. وتنبع جميع المشاكل التي أعربت عنها حكومة روحاني من حقيقة… عدم سماح سليماني [لأعضائها] بإدارة السياسة الخارجية للبلاد على أساس المعايير التي تفرضها الولايات المتحدة”. ومع ذلك، فمن المثير للاهتمام أن شريعتمداري لا ينكر أياً من مزاعم ظريف بشأن «فيلق القدس» أو «الحرس الثوري» أو علاقاتهما مع روسيا – وبدلاً من ذلك، ينتقد وزير الخارجية لمعارضته القرارات التي تتخذها هذه الكيانات وينفي أي استياء من الكيفية التي تعمل بها سياسة إيران الخارجية، واصفاً شكاوى ظريف بأنها “غير مشروعة”.
ورداً على الجدل الدائر حول مقابلته، قال ظريف: “يؤسفني كيف أصبح النقاش النظري والسري حول التآزر بين المجالين العسكري والدبلوماسي موضوع صراع داخلي. عند التعبير عن آرائي كخبير، اعتبرت أن أي التماس للراحة الشخصية، والتصرف بالتسامح، والرقابة الذاتية بمثابة خيانة.”
وفي النهاية، قد تصبح هذه الحادثة بداية النهاية للصراع على السلطة بين السياسيين المدنيين والقوات العسكرية في إيران.
مهدي خلجي هو “زميل ليبيتسكي فاميلي” في معهد واشنطن.