تكاثرت التعليقات على مرور عام على الثورة؛ هناك من بلغت به السلبية وسوء النية حدا جعله يحمّلها وزر انهيار الدولة وعجزها.
لنفترض أن 17 أكتوبر لم يبصر النور أصلا، وأن اللبنانيين تحملوا دفع 6 سنتات إضافية على تطبيق واتساب ولم يعترضوا، هل كان الوضع سيكون أفضل؟ هل كان سيختفي الدين العام؟ أو عجز الميزان التجاري أو ميزان المدفوعات؟ وهل كان الدولار سيعود إلى 1750 سعره عشية الثورة؟ هل كانت الدولة دفعت ديونها المستحقة بدل إعلان الافلاس؟ هل كانت بقيت رؤوس الأموال التي هربت واحتفظ المودع اللبناني بحرية التصرف برصيده في البنك؟
هل كانت تحسنت قدرة الدولة على مكافحة الحرائق أو حلت مشكلة الدواء والاستشفاء والضمان الصحي؟ أو مشكلة الطاقة والكهرباء والماء والنفايات وارتفاع الأسعار وأزمات الخبر والبنزين والتهريب عبر الحدود وفلتان المرافق والمعابر؟ هل كانت بيروت نجت من انفجار مرفئها؟ وهل كان سكان عين قانا نجوا من الانفجار؟
من السهل تحميل الثورة جميع مفاسد الأنظمة الحاكمة واستغلال الوضع لإعلان حكم الإعدام عليها. لماذا؟ لأنها لم تحقق أهدافها ولم تصلح الأوضاع!
الإجابة على مثل هذه الاتهامات بجملة وحيدة: ليس الثوار هم الذين يخلقون مشاكل العالم، لكن مشاكل العالم هي التي تخلق الثوار.
من درسوا الثورات رسموا لوحة تصف وضعية الأنظمة القديمة التي تسمح علامات ضعفها باستشراف التغيرات القادمة: الصعوبات الاقتصادية والمالية وعدم أهلية الحكومات والإدارات على القيام بمهامها. وهجرة المثقفين وتضاد الطبقات أو صراعها.
إذن كان أكثر من طبيعي حدوث الثورة، التي وجد البعض أنها تأخرت، والتي أظهرت مدى الغضب الذي يملأ قلوب اللبنانيين من التفاهة والابتذال الذي بلغته الفئات الحاكمة.
أظهرت الثورة مدى التغيير الذي حصل على مستوى الوعي لدى اللبناني. تشير “حنة أرندت” إلى أن الثورة هي افتتاح لمسار جديد للتاريخ، والبدء بقصة جديدة تماما؛ هي قصة لم تروَ سابقا، تكون على وشك الظهور. قد يتعثر ظهورها لكن بوادرها حاضرة.
التاريخ سيبين لنا مدى جدية ما يتفاعل على الأرض، ومدى رغبة اللبنانيين العميقة في التحرر الحقيقي من القيود التي تكبله من تبعيته للزعيم وللطائفة، ومدى مشاركته في الشأن العام.
ما فعلته الثورة كسر المسار الذي كان سائدا، وأشاع أفكارا وممارسات جديدة، من المراقبة إلى المساءلة والمحاسبة وحماية الحريات. فهي أمور صارت تمارس يوميا من قبل الناشطين على اختلافهم.
أظهر الرأي العام اللبناني الذي نزل الساحات احتجاجا، عجز السلطة وعدم أهليتها لإدارة الشأن العام وإيجاد الحلول للمشاكل المتفاقمة. كما انفضح انحيازها لمحازبيها وللشرائح المستفيدة من الدولة على حساب الشعب اللبناني. وهذه الشرائح تكاد تكون نصف الشعب اللبناني.
مسيرة الحراك اللاحقة لم تسمح بإحداث التغيير المطلوب، لأن الأرجحية كانت للمطالب المعيشية والاقتصادية والاجتماعية، رافضة ما سمي بالتسييس. وخافت من تعيين من يدير لعبة التوازنات والممسك بخيوط السلطة يحرك أطرافها كالماريونيت كي لا تنقسم.
وعلى غرار تجربة “بيروت مدينتي” التي تعاملت مع الانتخابات البلدية، ومن بعدها النيابية، كتعبير عن عمل اجتماعي منفصل عن السياسة ومتعلق بتوازن العائلات أي الأوساط المحلية والأهلية بنوع من تقليل أهمية السياسة والتخوف من تسببها بالانقسامات، على غرار التقليل من أهمية نشاطات النساء واعتبارها خارج السياسة. ذلك أن الفهم العام يفصل بين العمل الاجتماعي والشأن السياسي. إذ ينظر إلى الحياة السياسية على أنها تبدأ في الدوائر العليا في المجتمع ثم تنتقل تدريجا، ودائما على نحو غير تام إلى مختلف أقسام جسم المجتمع.
لكن رد الحركات النسوية على هذا الفهم المغلوط كان شعار “كل ما هو شخصي هو سياسي”. فحاجاتنا الخاصة والفردية تتعلق بالسياسات العامة. سبق لألكسيس دو توكفيل أن أشار إلى أن نجاح الديمقراطية الأميركية يعود إلى أن العمل السياسي والتأثير السياسي يبدآن من الوحدات الصغيرة، فالبلدة جرى تنظيمها قبل المقاطعة، والمقاطعة قبل الولاية، والولاية قبل الاتحاد. وكان لهذا أثر كبير على حسن سير الآلية الديمقراطية. وهذا ما يدعم مطلب اللامركزية. لا يتمكن الحكم المركزي العام أن يعرف حاجات الوحدات الصغيرة التفصيلية وبالتالي عليه إيجاد الآلية التي تسمح بتسيير شؤونها بعيدا عن البيروقراطية القاتلة. وهذا دور البلديات.
وإذا راجعنا تجربة الثورة على ضوء هذا الفهم، نجد أن الثوار على الأرض طرحوا المشاكل وعينوها في جميع القطاعات لكنهم عجزوا عن فرض تنفيذ أي منها، لأنهم رفضوا ترجمتها سياسيا وأرادت غالبيتهم الاكتفاء بالحلول الإدارية والتقنية للاقتصاد، مكتفين بالحملات على المصارف بما فيها المصرف المركزي.
إن أهم وسائل القمع عند الطبقات الحاكمة هي جعل السياسة حكرا على القوى المسيطرة، فبإمكانك العمل في جمعيات أهلية وأندية لكن ليس في أحزاب سياسية معارضة.
الفهم الجديد المطلوب هو أن كل ما هو اجتماعي واقتصادي وإداري لا يمكن فصله عن السياسي ولا يمكن تحقيق الإصلاح الاقتصادي أو المالي بمعزل عن السياسة. وهنا أستعيد استشهاد معظم القوى السياسية الحالية التي تذكر أن أداء الإدارات والوزارات المعوجّ والخاضع للفساد، تحسن مباشرة بعد خطاب بشير الجميل الذي أعلن فيه محاسبة كل من لا يطبق القوانين بحرفيتها.
عائق آخر، عدا الانقسام، أمام تسييس المطالب، هو أن للسياسة وقعا سلبيا في لبنان وفي المنطقة عموما. فالسياسة والتحزب تحمل شحنات سلبية لأنها تعني الانحياز والتعصب، وترتبط بالفساد والتسلط وانعدام النزاهة والشفافية.
كما أن السياسة تقوم على علاقة الراعي بالرعية، وعلى الوجاهة والذرائعية والخدمات والاستتباع في الممارسة. وهي ممارسات رفضها الثوار.
إن شعار ” كل ما هو شخصي هو سياسي” يقصد أن نُوسّع الميدان “السياسي” بحيث يشمل الاجتماعي والشخصي وذلك في محاولة لجعل الاهتمامات التقليدية كجزء من السياسات وليست خارجة عنها. فالحاجة إلى مدرسة للطفل هي شأن سياسي، كما أن طبابته والمستشفى للجد العاجز والكهرباء المقطوعة ومياه الشفة أيضا، جميعها شأن سياسي، كما القوانين المتعلقة بالأحوال الشخصية.
وإذا كان هناك إجماع أن أحد أسباب فشل الثورة في لبنان في تحقيق تقدم ملموس، افتقاد الرؤيا والقيادة والبرنامج؛ يظل سؤال هل يمكن لم شمل الجميع حول قيادة واحدة وبرنامج موحد؟ وحتى لو تمكنوا من تقديم أفضل برنامج مطلبي اقتصادي واجتماعي مع ترتيب للأولويات ولاقتراحات تقنية ممتازة، يظل السؤال: هل سينجحون في محاربة الفساد دون آليات سياسة تلجم مكامن الهدر والتهريب عبر المعابر السائبة والمحمية من سلطة دويلة فوق سلطة الدولة؟ ودون تنفيذ المطلب السياسي ـ السيادي القاضي بتطبيق قرارات الشرعية الدولية من قرار 1595 و1680 و1701، والذي بلغ الحد ببعضهم تخوين حاملي هذا الشعار. هذا دون أن ننسى أن السلطة تطبق قرار 1701 استنسابيا، فتطبقه في جزئيته المتعلقة بالجنوب ومع إسرائيل، فيما يشمل الجنوب والشرق والشمال كما حصر السلاح بالجيش اللبناني.
لذا لا يمكن النجاح بإحداث تغيير على مستوى السلطة عندما تختزل الأزمة بسوء الإدارة. المطلوب برنامج سياسي ومطالب سياسية واضحة وجبهة سياسية تجمع من يقتنع بها من الثوار ومن يلاقيهم من السياسيين، سواء السياديين أو التائبين منهم.