مات ناشد صحافي ومحلّل سياسي متخصّص في شؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، مع تركيز خاص على السودان. يتابع الأحداث عن كثب في السودان منذ الانتفاضة الشعبية التي اندلعت في كانون الأول/ديسمبر 2018 ضد الرئيس السلطوي عمر البشير الذي حكم البلاد لفترة طويلة. نُشِرت أعماله عبر موقع قناة الجزيرة الإنكليزية، وفي مجلّتَي Newlines، وNew Humanitarian، ومعهد التحرير لسياسات الشرق الأوسط، ووسائل إعلامية أخرى. أجرت “ديوان” مقابلة معه في منتصف نيسان/أبريل للحديث عن اندلاع العنف في السودان بين القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع.
مايكل يونغ: ماذا كان وراء نشوب القتال في السودان؟
مات ناشد: في رأيي، كان ذلك نتيجة فشل الوساطة الدولية من بعثة الأمم المتحدة، ومن الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، والإمارات العربية المتحدة، والمملكة العربية السعودية. كان الغرب يدفع للتوصّل إلى اتفاق، أيًّا كان، لإنهاء المأزق في أعقاب الانقلاب العسكري في 25 تشرين الأول/أكتوبر 2021. بعد وقف المساعدات الإنمائية وتعليق شطب مليارات الدولارات من ديون البلاد، وذلك ردًّا على الاستيلاء على السلطة، كان الغرب بحاجة إلى ذريعة لاستئناف هذَين الإجرائَين، ما يُشير إلى أن مصدر القلق الأكبر بالنسبة إليه في ما يتعلق بالسودان كان الاستقرار من خلال عدسة الاقتصاد.
أدّى ذلك في نهاية المطاف إلى توقيع اتفاق مؤقّت عُرِف بالاتفاق الإطاري في 5 كانون الأول/ديسمبر 2022. وكان الهدف الظاهري من الاتفاق معالجة مسائل خلافية جدًّا، مثل إصلاح القطاع الأمني، في غضون بضعة أيام أو أسابيع. وقد أثبت هذا الاستعجال أن الغرب ليس مستعدًّا لبذل جهود دولية متضافرة من أجل معالجة المسائل الأساسية في السودان قبل توقيع اتفاق. لم توظَّف استثمارات كافية من حيث الوقت ورأس المال السياسي. كان ذلك واضحًا حين عقد الأفرقاء جلسة واحدة فقط، في 29 آذار/مارس، بشأن إصلاح القطاع الأمني، قبل توقيع الاتفاق الذي كان مرتقبًا في 1 نيسان/أبريل. كان يُفترَض أن يؤدّي الاتفاق إلى تشكيل إدارة مدنية جديدة ظاهريًا، فيما يفرض المجلس العسكري سيطرته على الدولة بحكم الأمر الواقع، قبل إجراء انتخابات جديدة. ولكن الجلسة التي عُقِدت في 29 آذار/مارس لم تسر على ما يرام، وانتهت سريعًا، فأُرجئ توقيع الاتفاق الجديد إلى موعد لاحق في نيسان/أبريل.
باختصار، توقّف نجاح العملية السياسية فعليًا على القوتَين اللتَين نظّمتا الانقلاب، وهما القوات المسلّحة السودانية وقوات الدعم السريع. ولكن الأفرقاء الخارجيين أرادوا التوصّل إلى حل للقضية الأكثر حساسية في السودان، بين الأفرقاء الأكثر عسكرةً، في إحدى المناطق الأكثر عسكرةً في القرن الأفريقي ضمن مهلة زمنية ضيّقة. كانت خطوة غير واقعية وتسبّبت باحتدام التشنجات لأن الجيش وقوات الدعم السريع لم ينظرا بالطريقة نفسها إلى مسألة إصلاح القطاع الأمني.
غالبًا ما يستغرق إصلاح القطاع الأمني أشهرًا وسنوات لتحقيقه، وهذه عمليةٌ بالغة الدقّة. فهو يقتضي استيفاء معايير واضحة وبناء الثقة بين الأفرقاء الأمنيين المختلفين، من خلال التلويح بالعصا في حال أخفق الأفرقاء في تحقيق الإصلاح. يجب أن تنطلق هذه العملية قبل توقيع اتفاق. ولكن في الواقع، حدث العكس، ولم يؤدِّ استعجال الأمور سوى إلى تفاقم الخلافات الشديدة بين قائد الجيش، الفريق أول عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الدعم السريع الفريق محمد حمدان دقلو المعروف بـ”حميدتي”. انسحب الجيش من العملية على الفور لأنه أراد استيعاب قوات الدعم السريع في غضون عامَين، في حين أرادت قوات الدعم السريع تحديد الإطار الزمني بعشر سنوات. وقد أخطأ الدبلوماسيون الأجانب في الخرطوم في الاعتقاد أن التشنجات ستنحسر بعد توقيع الاتفاق.
علاوةً على ذلك، حاول الجيش، خلال التحضير للاتفاق، تجنيد عناصر من قاعدة حميدتي القبلية لإضعافه. وأعادت قوات الدعم السريع، بدورها، نشر عناصرها عبر نقلهم من دارفور إلى الخرطوم. وتسارعت الأمور حين انتشرت قوات الدعم السريع قرب مطار مروي حيث تربض الطائرات العسكرية المصرية والسودانية. وقد اعتُبِرت ضربة استباقية تشنّها قوات الدعم السريع ضد الجيش وتفوّقه الجوّي عليها. ونظرًا إلى غياب الوساطة الدولية وعدم ظهور حالة طوارئ دولية، بسبب وجود السفراء في عطلة خارج السودان لمناسبة عيد الفصح، لم يسارع كبار المسؤولين الدبلوماسيين بالعودة إلى البلاد للبحث عن حل. كان ذلك ليتطلب تعليق المساعي للتوصل إلى اتفاق، بدلًا من مضاعفة الجهود للإصرار على توقيعه.
يونغ: ألمح البعض إلى وجود مكوّن خارجي في المواجهة، مع إبداء بعض البلدان العربية دعمها لأفرقاء متناحرين. هلّا تشرح لنا مَن هي الجهات التي تدعم هذا الفريق أو ذاك، وما هو الدور الذي تؤدّيه في القتال، إن كان ثمة من دور؟
ناشد: ثمة دورٌ بالفعل. مما لا شك فيه أن الإمارات تدعم حميدتي، وتربطها به منذ وقت طويل علاقة الجهة الراعية بالعميل، وذلك لأسباب عدة. ففي السودان يستطيع الإماراتيون أن يستحوذوا على كمية كبيرة من الذهب من المناجم التي يسيطر عليها حميدتي. وتميل الإمارات أيضًا إلى التعامل مع شركاء على مستوى الصفقات، وحميدتي هو كذلك بالطبع، بدلًا من التعامل مع شركاء ذوي دوافع إيديولوجية.
أما الجيش السوداني فتربطه علاقات طويلة الأمد بالجيش المصري. خلال الأعوام الثلاثة الماضية، أجرى الجيشان تدريبات عسكرية مشتركة أرادت مصر من خلالها استعراض عضلاتها أمام أثيوبيا في ما يتعلق بالخلافات الجيوسياسية الأوسع، ولا سيما الخلاف حول سد النهضة الأثيوبي الكبير. تعود العلاقات المصرية مع الجيش السوداني إلى زمنٍ بعيد. فقد تدرّب قادة عسكريون سودانيون في مصر، وأعتقد أن الرئيس السابق عمر البشير شارك في القتال في الحرب العربية الإسرائيلية في تشرين الأول/أكتوبر 1973. يجب أن نتوقّف عند نظرة مصر إلى الأمن بصورة عامة. لطالما قدّمت مصر المؤازرة للمؤسسات العسكرية أو العسكريين الذين أبدوا رغبتهم في دعم إنشاء مؤسسات عسكرية. ولهذه الأسباب، يمكن أن نفهم لماذا يثير حميدتي نفور مصر. يدرك السعوديون، من جهتهم، أنهم لا يمكنهم الوثوق حاليًا بكلا الشريكَين، البرهان وحميدتي، وربما يُنظَر إليهم بأنهم أكثر حيادية عمومًا بسبب علاقاتهم مع الاثنَين.
يونغ: هلا تخبرنا عن الفريقَين الأساسيَين، البرهان وحميدتي، وماذا يأملان في تحقيقه في هذا النزاع؟
ناشد: البرهان رجلٌ عسكري، وقد ارتاد الكلية العسكرية. يُعتقَد أنه مرتبط بالتيار الإسلامي في السودان، ولكن حجم هذا الارتباط موضع نقاش. الواضح أنه رجل مؤسسات خدم في الاستخبارات العسكرية في وسط دارفور خلال مرحلةٍ شهدت بعض أسوأ أعمال العنف في تلك المنطقة في منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين. يعني ذلك أن للبرهان ماضيًا من الإشراف على الفظائع أو الضلوع فيها. حكاية البرهان وحميدتي هي أيضًا حكاية الجيش وقوات الدعم السريع. تكوّنت قوات الدعم السريع انطلاقًا من ميليشيات عدّة تولّى البشير تسليحها وتدريبها خلال نزاع دارفور. وقد نمت وباتت لديها طموحاتها الخاصة، وأصبحت قوّة قادرة على منافسة الجيش على الهيمنة. لم يشكّل ذلك تهديدًا محدقًا بمكانة الجيش فحسب، إنما أيضًا بشبكات المحسوبيات التابعة له وقبضته الاقتصادية الشديدة على البلاد. مورِست ضغوط على البرهان من داخل الجيش للحؤول دون ذلك والحرص على بقاء الجيش المؤسسة العليا في البلاد. أما حميدتي فعلاقته بقوات الدعم السريع أكثر هرمية، من أعلى إلى أسفل. ويسيطر مع عائلته، بصورة أساسية، على القيادة العليا في قوات الدعم السريع، ولديهم طموحات كبيرة. إنهم يستخدمون مجنّديهم الذين يتاقضون رواتب جيدة بهدف تحقيق طموحاتهم الشخصية.
يونغ: ما هو برأيك السبيل للخروج من المأزق الحالي؟ ومَن هو الأفضل تجهيزًا للتوسّط من أجل التوصّل إلى تسوية ناجحة للنزاع؟
ناشد: تصعب كثيرًا الإجابة عن هذا السؤال. علينا أن نعيد تأطير أولوياتنا ونركّز على حماية المدنيين. يجب إعطاء الأولوية لفتح ممرات إنسانية تمرّ المساعدات من خلالها إلى مناطق النزاع، نظرًا إلى توقّف خدمات المساعدات إلى المناطق المهملة حيث ثمة مراقبة أقل للنزاع، كما في دارفور أو شرق السودان. فهذه الأماكن شديدة الهشاشة، وسادت مخاوف جمّة بشأن حمايتها حتى قبل اندلاع النزاع.
يتحقق نجاحٌ كبير إذا أمكن وقف الأعمال العدائية لمدّة 24 ساعة. أعتقد أننا أصبحنا في مرحلة مختلفة الآن، لأن الحؤول دون اندلاع النزاع أسهل من وقفه بعد حدوثه. في هذه المرحلة، علينا أن ننظر في مسألتَين اثنتَين: كيف نستأنف المساعدات للسكّان الضعفاء؟ وكيف نتوصّل إلى طرق ليتمكّن الأشخاص من مغادرة السودان، نظرًا إلى الأضرار التي لحقت بالمطار؟ يجب أن تتحلّى الدول الغربية بقوّة العزيمة وأن تتوقّف عن استرضاء شركائها الإقليميين، ولكن ينبغي عليها أيضًا التعاون معهم، نظرًا إلى أن المصريين والإماراتيين والسعوديين يتمتعون بنفوذ حقيقي. في الوقت نفسه، لا يستطيع الغرب ببساطة أن يعهد إليهم بجهود الوساطة.
الرهانات في السودان عالية جدًّا بالنسبة إلى المنطقة، وبصراحة شديدة، الرهانات عالية في الكثير من المسائل المهمة التي تثير اهتمام الغرب. تقتضي الحكمة أن تشكّل الدول الغربية جبهة موحّدة تنطلق من مجلس الأمن الدولي، وتجمعها مع روسيا والصين مصالح مشتركة إلى حدٍّ ما، فالصين لا تحبّذ أن يتعرّض استقرار البلدان للزعزعة بشكلٍ كامل لأن ذلك قد يُهدّد مبادرتها المعروفة بمبادرة الحزام والطريق. حين تندلع نزاعات من هذا القبيل، تميل بيجينع إلى العمل على احتوائها. وعلى النقيض من النزاعات السابقة حيث ساد الاستقطاب داخل مجلس الأمن، قد يتيح السودان فرصة لاحتواء الأزمة، وحماية المدنيين، وفتح ممرات إنسانية. وهذا يولّد قاعدة أقوى بكثير لدفع الدول الإقليمية الضالعة في العنف في السودان إلى أن تكون أكثر تعاونًا. ولكنها ليست مهمّة سهلة.