نشأ فارس سعيد في كنف والدته “الست نهاد” ولم يقدّر له ان ينشأ في ظلال والده النائب الدكتور انطون سعيد، الذي توفي عام 1965 بعد سنة من انتخابه نائبا للدورة الثانية عن قضاء جبيل، على لوائح “الشهابيين” نسبة الى الرئيس الراحل فؤاد شهاب.
فوق جثمان زوجها الراحل عن عمر ناهز 40 عاما، وقفت أرملته، نهاد جرمانوس سعيد، وهي في 32 من العمر، وأم لستة أطفال، وألبست نفسها عباءة النيابة، وقالت « الامر لي »، واعلنت انها ستترشح للانتخابات النيابية البديلة لملء المقعد الذي شغر بوفاة زوجها. وخاضت الانتخابات في وجه ريمون اده، بعدما رفض إده طلب الزعيم كمال جنبلاط بترك المقعد للست نهاد. وبعدما تدخل البطريرك المعوشي، طالبا من الست نهاد عدم الترشح والتفرغ لتربية أطفالها، الامر الذي رفضته « الست »!
عتاة الموارنة في المجتمع الذكوري هالهم ان تترشح أرملة شابة في وجه نجل اميل اده، فعملوا على إسقاطها بفارق 932 صوتا حيث نالت الست نهاد 9544 صوتا في مقابل 10476 لريمون اده.
قيل يومها ان جهاز الامن العام تدخل بطلب من الرئيس شارل حلو، وزوّر الانتخابات لصالح ريمون اده! فاستقالت حكومة الحاج حسين العويني، وكانت النتيجة خسارة نهاد سعيد المقعد الانتخابي.
وحتى مماتها، بقيت الست نهاد تتعاطى الشأن السياسي، حاضرةً في الشأن العام الجبيلي، في مدنه وقراه المسيحية والشيعية، ولم تتوقف عن الترشح للانتخابات النيابية، حتى فازت بالمقعد النيابي في انتخابات 1996، لتنسحب لنجلها النائب الدكتور فارس سعيد الذي انتخب نائبا لدورة واحدة في انتخابات عام 2000.
وإذا كان يسجل لنهاد سعيد إرادتها الصلبة صلابة الفولاذ، فهي خاصمت عميد الكتلة الوطنية وظلت تترشح في مواجهته، الى ان جمعتهما ارادة البطريرك الراحل نصرالله صفير لمقاطعة الانتخابات التي جرت عام 1992، فكان اول لقاء من باب « الندية » بين « الست » و « العميد »، وقاطعا الانتخابات معاً، وفازت مها اسعد الخوري بالمقعد النيابي بأصوات 44 ناخبا!
فارس الذي درس الطب في فرنسا، إختار طب القلب، ربما ليكتشف لماذا فارق والده الحياة والعائلة باكرا، قبل ان يتعرف اليه جيدا. عاد الى لبنان عام 1989، ليخوض غمار السياسة، محافظا على نهج البيت الذي ضم ذات يوم وجهاء واعيان بلاد جبيل، لتوقيع « وثيقة قرطبا صيف 1975 »، بعد ثلاثة أشهر على توقيع « وثيقة عنايا » ذات الطابع الكتلوي، بين ابناء القضاء من المسيحيين والشيعة، والهدف الحفاظ على صيغة العيش المشترك في بلاد جبيل، ما ساهم بأن ينأى القضاء عن الحروب المذهبية والطائفية! فبقي الشيعة فيه يعيشون بسلام، في حين احتدم الصراع السياسي! فتمت مهاجمة بيت الكتلة الوطنية في مدينة جبيل، وكذلك بلدة جاج الجبلية ومنزل مختارها منقد سليمان بسبب انتمائه « الكتلوي »، وبلدة العاقورة تم قصفها بالمدفعية قبل ان يتدخل المطران نصرالله صفير، ليوقف القصف على البلدة، ويعمل على تهدئة الامور.
وما حصل من اعتداءات على مواطنين مسلمين في قضاء جبيل، لم يكن بسبب انتمائهم الطائفي او المذهبي، بل بسبب انتمائهم السياسي. على غرار مواطنيهم الكتلويين في جبيل وجاج و« اليساريين » في العاقورة.
لم يكد سعيد يصل الى لبنان حتى بدأ العمل على استعادة بعضٍ من إرث والده الطبي، فأعاد ترميم « مستشفى سانت انطوان « المدمّر على « خط التماس »، وبدأ العمل به في تشرين 1995.
في باريس، وقبل عودته الى لبنان، التقى فارس سعيد بصديق العائلة سمير فرنجيه، واعاد معه وصل ما انقطع بفعل الحرب من علاقات عائلية كانت قائمة بين حميد فرنجيه وانطون سعيد، بحكم الجيرة السكنية في منطقة المتحف، في العاصمة بيروت، وبحكم صداقتهما المشتركة مع بطرس ديب، صديق العائلتين المقرب.
على تقاطع سمير فرنجيه فارس سعيد، كانت « ماري كلود سعيد »، شقيقة فارس، صديقة لسمير فرنجيه جمعهما النضال في صفوف اليسار اللبناني.
عام 1992، عاد سمير فرنجيه الى لبنان، وبعد مقاطعة الانتخابات النيابية، حاملا هم الوصل بين اللبنانيين بعد طول انقطاع، وبعد اختمار تجاربه السياسية، متنقلا في صفوف اليسار، وقارئا لكل التجارب التي خاضها، منفردا ومع سائر اللبنانيين، وابرزها تجربة الحرب الاهلية والكوارث التي نتجت عنها. خصوصا « القطع » و« الانقطاع » بين اللبنانيين، وفقدان لغة الحوار والاعتراف بالاخر المختلف، فضلا عن اهمية لبنان كمختبر فريد في العالم للعيش المشترك بين الاديان والمذاهب الذين يتشاركون السلطة والعيش معا.
أطلق سمير فرنجيه اولى مبادراته الحوارية، تحت مسمى “المؤتمر الدائم للحوار اللبناني“، عام 1993، وكان فارس سعيد الى جانبه ولم يفارقه حتى آخر يوم في حياته.
أقام المؤتمر خلوات مناطقية في عنايا–جبيل، وكفيفان–البترون، وطرابلس، والضنية، وعكار والبقاع والجنوب وبيروت ودير سيدة الجبل في فتقا، وفي الشوف. شارك سعيد في معظم الخلوات، وتعرف الى لبنانيين آخرين، من دروز وشيعة وسنة، وموارنة يختلفون مع الغالبية المارونية، من بينهم السيد العلامة هاني فحص، والمحامي جان حرب، ورشيد جمالي في طرابلس ومصباح الصمد في الضنيه وكثر غيرهم من الذين اقتنعوا بمنطلقات الحوار الوطني وقبول الآخر، والاهم الافادة من دروس الحرب الاهلية والعمل على منع تكرارها.
التصق اسم فارس سعيد باسم سمير فرنجيه فشكلا ثنائيا لبنانيا متميزا، في ثقافة الحوار والوصل، واعادة بناء مفاهيم السلام بين اللبنانيين وتمتين صيغة المشترك. فكان ثنائي « البيك » و« الطبيب » عرّابا مصالحة الجبل التاريخية، مع المحامي جان حرب، بين الموارنة والدروز، والتي توجت بلقاء البطريرك صفير والزعيم وليد جنبلاط، في المختارة!
وكانا في صلب انتفاضة الاستقلال الثاني، متنقلين بين قريطم وما تمثل، وبين غدراس ومعراب لاحقا، والمختارة، والصيفي، متمركزين في مبنى الامانة العامة لقوى 14 آذار، التي كان الدكتور فارس سعيد منسّق أمانتها.
ولانهما لا يمثلان احزاباً، إقترح الزعيم وليد جنبلاط يومها ان يكون الدكتور سعيد منسّقاً للامانة العامة لقوى 14 آذار، كتقدير لدوره مع فرنجيه في الجمع والوصل والحوار، فكان شبه اجماع على ان يكون فارس سعيد منسِّقا.
لماذا لم يسمِّ جنبلاط سمير فرنجيه؟ ربما لادراكه ان فرنجيه يجنح أكثر الى المسالمة وبفضل عدم المواجهة أحيانا، في حين أن سعيد، بديناميكيته الشخصية وقدرته على المواجهة، فضلا عن سرعة البديهة التي يتمتع بها وفطرته الجبلية، يستطيع المواجهة وتدوير الزوايا في آن واحد!
تربّع سعيد على مقعد الامانة العامة لقوى 14 آذار، فكان حافظَ اسرار قياداتها، وخلافاتهم الصغيرة والكبيرة، يعمل مع فرنجيه دون كلل على رأب الخلافات والتباينات في وجهات النظر، ويتعرض للانتقاد والنقد من الأقربين والأبعدين! فما كان مطلوباً منه اكبر من قدراته، خصوصا انه ليس مقررا في شؤون الاحزاب والتيارات السياسية التي تشكلت منها 14 آذار. فغادرها « حزب الكتائب » ردحا من الزمن، بعد ان اتهم الحزبً سعيد بصرف اموال قدرها الكتائب يوما بـ« الملايين »، ليتبين لاحقا ان لا صحة لهذه الاتهامات، وتعود الكتائب الى الامانة العامة!
بعد ان استتب الامر لاحزاب وتيارات قوى 14 آذار، بدا وكأن « الامانة العامة » اصبحت عبئا عليها.
فبدأ بعضهم يمارس “التنمر” السياسي على روّاد الامانة العامة، وكان سعيد في الواجهة، يأخذ في صدره كل محاولات الاقصاء والإبعاد التي قررت الاحزاب ان تمارسها في حق بعض من اعتبرتهم مزايدين عليها، او باحثين عن مناصب سياسية باسم الامانة العامة! وصولا الى التدخل التفصيلي في كل المبادرات التي كانت تطلقها الامانة العامة، حتى اسماء المشاركين، ومن يحق له ان يكون في قيادة المجلس الوطني لقوى 14 آذار، ومن لا يحق له! حتى ان مندوب احد الاحزاب، وصل باكرا الى المؤتمر الذي عقد في « البيال » لاطلاق « المجلس الوطني لقوى 14 آذار »، ليعمل على إقصاء ثلاثة من ناشطي 14 آذار عن الهيئة القيادية، فنجح في إقصاء إثنين وانفجر الثالث غيظا وغضبا! فكان سعيد صمام امتصاص الصدمات واكمل المؤتمر اعماله وانتُخِب سمير فرنجيه رئيسا.
حجة الاحزاب كانت انهم ليسوا في حاجة الى منصات سياسية تسمح ببروز شخصيات من خارج الاحزاب وتتحدث باسم قوى 14 آذار! فالاحزاب قادرة على القيام بالمهمة، ومن تُغريه السياسة والشأن العام، فليلتحق بالاحزاب كل في طائفته! ومع ذلك بقي فارس سعيد يعاند، ويصر على بقاء الامانة العامة لقوى 14 آذار، ناشطة وفاعلة في السياسة الوطنية.
بعد رحيل رفيق عمره سمير فرنجيه، لم ينكفئ سعيد، بل أصرّ على الاستمرار في النهج الذي عملا معا عليه منذ التقائهما السياسي في العام 1993. فهو يطلق المبادرات، بعد ان « انفختَ دفّ » قوى 14 آذار وتفرقوا احزابا وشيعاً متناحرة.
على صفحته على موقع تويتر شعار “14 آذار قضية شعب” وهو ما زال يؤمن بانتمائه الى ذلك اليوم التاريخي، الذي اعتبره تكريسا لنضال بدأه مع فرنجيه عشية إطلاق « نداء المطارنة الموارنة »، واستمر في إطار لقاء “قرنة شهوان“، ومهّد لاجتماع اللبنانيين مسلمين ومسيحيين انتفاضا لدماء الرئيس الشهيد رفيق الحريري.
بطريرك ماروني في السعودية!
في العام 2017، كان لسعيد اليد الطولى في التحضير لزيارة قام البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي الى المملكة العربية السعودية، حيث التقى قيادتها من الملك سلمان الى ولي عهده الامير محمد بن سلمان. وهي زيارة تاريخية، كونها الاولى لرجل دين ماروني برتبة كاردينال في الكنيسة الكاثوليكية الجامعة الى المملكة العربية السعودية، فاتحة الباب امام لقاءٍ مسيحي اسلامي على مستوى القمة، لاول مرة في تاريخ المنطقة.
أعاد « مفاتيح المبنى » للحريري.. وأكمل!
يتحضر سعيد لاطلاق المجلس الوطني لتحرير لبنان من الاحتلال الايراني، في العاشر من الجاري، في موقف يتباعد فيه عن معتمدي « الواقعية السياسية » في التعاطي مع حزب الله، وهيمنته المباشرة على كل مفاصل الدولة.
فبالنسبة لسعيد الانتخابات لن تحل ازمة لبنان، مهما تبدلت الاكثرية النيابية واينما كانت، طالما ان قرار الدولة مصادر من قبل ملالي طهران عبر وكيلهم في لبنان حزب الله.
وعلى جري المبادرات السابقة التي يطلقها فرنجيه جمع سعيد نخباً لبنانية، من كل الطوائف والمذاهب، ويعمل على حشد المزيد وصولا الى إحداث تراكم سياسي وشعبي لبناني يؤدي في نهاية الامر الى الاستقلال الثالث!
بالنسبة لسعيد، كما توهم كثير من اللبنانيين ان الاحتلال السوري للبنان « شرعي وضروري ومؤقت »، ولم يقتنع احد ان ذلك الاحتلال الى زوال، فإن الاحتلال الايراني ليس ضرورياً ولا شرعياً.. وهو الى زوال!
لذلك يجب العمل على تهيئة الارض لزوال هذا الاحتلال بمفاعيله كافة.
ألم يقم لقاء “قرنة شهوان” بدور شبيه؟
محنة سعيد انه في الكثير من الاحيان كان مع فرنجيه وسواهم كالجندي المحهول، الذي يقاتل، ويُقتَل ويخسر ويموت، وحين الاحتفال بالنصر، يجلس على مقاعد الاحتياط! فهو ليس حزبيا، ولا يحظى بنعمة تولي وزارة هو لا ولم يطلبها، ولكن أحداً من أصحاب الأحزاب لم يسأله يوما، لا هو ولا سمير فرنجيه، وهو في احتساب اصوات الناخبين، يُسأل عن حجمه التمثيلي، من قِبَل من دَعَمَهم ولم يبخل عليهم يوما بتضحية، وتتم التضحية به وبتضحياته عند اول مفترق، لصالح هذا الفريق الحزبي او ذاك! فتركه تيار « المستقبل »، في انتخابات العام 2009، بحجة انه من « صقور 14 آذار »، وتخلت عنه « القوات اللبنانية » في الانتخابات التي تلتها ، بـ« حِجة » انه لن يفوز بهذه الانتخابات وانها دعمته سابقا ولم يستطع الفوز!
منذ ان اصبح متحررا من قيود الامانة العامة وحسابات احزابها، يصوّب سعيد على الاحتلال الايراني. وهو ملاحق من قبل محامي حزب الله امام القضاء بتهمة زعزعة الاستقرار لمجرّد أنه يملك بضع تغريدات يومية على موقع تويتر! في حين ان من تباهى بقدرته على تجنيد 150 الف مقاتل وامتلاكه آلاف الصواريخ الذكية منها والغبية، يدعي عليه بتهمة زعزعة الامن!
تصويب سعيد ومبادرته موضع امتحان في 10 كانون الثاني/يناير الجاري. وهو على جري عادته سيجلس في المقاعد الخلفية مزهوا بقدرته منفردا على تحقيق خرق سياسي نوعي في جدار الازمة اللبنانية، رافضا التعايش مع سلاح حزب الله أيا تكن المبررات.
كان الله مع د.فارس سعيد الفارس البطل ونتمنى الله ان يوفقه بكل خطأه…وإن يتمكن من اعادة الحق والحقيقة الى بلد منكوب بأصحاب السلاح والرجال…
سعيد لا يؤسس حزب انه يبني وطنا