الشفاف- موسكو
عندما دقت ساعة الصفر التي أعلنها بايدن نقطة انطلاق “الغزو الروسي” لاوكرانيا، في 16 فبراير، الساعة الرابعة فجرا على وجه التحديد، كان الكرملين هادئا بعتمته كما قي اي يوم اعتيادي.
مساء أمس الثلاثاء كان المتحدث باسم الكرملين بيسكوف قد صرح متهكما ردا على توقيت الهجوم على اوكرانيا:” ليضبطوا المنبه!”.
منذ بداية العام الراهن، واصل التوتر في العلاقات الأوكرانية الروسية، اذا ما أمكن وصفها بالعلاقات، طريقه صعودا، حتى إعلان الرئيس الاميركي جو بايدن ان الحرب لا محال ستندلع في السادس عشر من الشهر الجاري.
قبيل هذا التاريخ ملايين حول العالم، من خبراء ومحللين، وسياسيين، وسفارات ومواطنين، قرعوا طبول الحرب، متخوفين من تداعياتها الاقتصادية والعسكرية والامنية والنووية…
هذا التهويل كان أقل حدة في الداخل الروسي.. فليست روسيا من شهدت سفارات الدول الكبرى تجلي مواطنيها، وليست روسيا من شهدت على طيران كبرى الدول تمتنع عن التحليق في سمائها، اوكرانيا من تعبت تنادي يوميا دول الغرب باجمله طلبا للدعم … والدعم الذي تلقته كييف مقارنة بهول المصيبة المرتقب وقوعها على حدودها بسيط.
كندا ارسلت، عشية “الحرب المتوقعة” أي في الخامس عشر من شباط/ فبراير، حسب بيان لوزراة الدفاع، في اطار ما وصفته بالدعم الفوري، معدات توصف بالحماية الشخصية مرفقة بفريق يضمن تدريب القوات الاوكرانية، وصيانة المعدات. لم تتخلف الدول الصديقة، دول البلطيق، عن المساعدة بارسال كل من لاتفيا وليتوانيا واستونيا صواريخ ستينغر الاميركية المضادة للطائرات، وصواريخ جافلين المضادة للدروع.
واشنطن وفت بالوعد، ومدّت كييف بطائرتين محملتين باسلحة دفاعية…
كثيرة الدول التي وفت بالوعد، إلا أن السلاح الذي حصلت عليه اوكرانيا حتى اللحظة سلاح دفاعي، وهو غير استراتيجي لخوض حرب ستكون وبدون شك واسعة النطاق.
ماذا عن الجيش الاوكراني؟
يرى الخبير الروسي بوغدان بيزبالكو، أن الجيش الأوكراني”رغم كل محاولاته الانضواء تحت راية الناتو، لا يزال يعيش آليات الفكر العسكري السوفيتي”، قائلا:” الجيش الاوكراني لا يزال من ناحية النوعية العسكرية “بقايا قوات” للدول السوفيتية بما في ذلك ما يتعلق بالمواثيق والوحدات العسكرية الفنية والمؤسسات الصناعية العسكرية التي عفا عليها الزمن“.
واردف مشددا على انه رغم ذلك “نجحت اوكرانيا بضمان وصول عملها الى حد ما إلى مستوى القوات الخاصة الغربية، لا شك بتمويل اجنبي. هذه الوحدات ليست بالكثيرة الا انه بامكانها منافسة الوحدات الغربية وحتى الروسية“.
في الوقت نفسه ، شدد على أن الجيش الأوكراني لا يزال يفتقر إلى أنظمة دفاع جوي ودفاع صاروخي حديثة لتكون على أقل ما يمكن فعالة إلى حد ما في مواجهة القوات المسلحة الروسية.
هجوم روسي فجر الأربعاء!!
لا شك في أن موسكو لم تتخل يوما في تعاطيها مع أوكرانيا وغيرها من دول فضاء الاتحاد الروسي السابق عن لهجة الاستعمار، والفوقية في بعض الاحيان غير المبررة! وكأن الكرملين في غيبوبة سوفيتية يرفض بعدها تقبل ما حققته بلدان رابطة الدول المستقلة من تطور على مستوى المؤسسات والديمقراطية او التوق لها.
الا ان تساؤلات كثيرة تطرح حول ما جعل العالم يعتقد بان هذا الهجوم محتوم.
لم يكن في الخطاب السياسي الروسي منذ بداية التوتر اي تنويه لهجوم عسكري. بدأت الشرارة مع تحركات اوكرانية نهاية العام الماضي على الحدود الروسية، وتزامنت مع تفعيل الرئيس الاوكراني فلاديمير زيلينسكي رغبة اوكرانيا الانضمام الى حلف الناتو.
أمر لم ولن تستسيغه روسيا التي تتجدد دعواتها للناتو بعدم الاقتراب من فضائها، فكيف اذا كانت دولة، احتلت خلال سبعين عاما المركز الثاني بعد روسيا في الاتحاد السوفيتي؟
وكما على لوحة شطرنج، اجاب الكرملين على خطوات اوكرانيا بنشر قواته على حدوده قالبا الميدالية متذرعا بالدفاع عن النفس.
هذه الـ”انا” الروسية” تتلخص اليوم بجمهوريتي “دونباس” و”لوغانسك” المنفصلتين، واللتين كانتا اليوم في قلب اقتراح من مجلس الدوما الروسي تم تقديمه لبوتين، ويقضي بالاعتراف باستقلالهما كجمهورتين مستقلتين.
اذا ما تم الاعتراف باستقلالهما واذا ما خلص الامر الى ابرام اتفاقيات عسكرية معهما، فربما يكون للكرملين سبب شرعي (من طرف واحد بعيدا عن تصفيق المجتمع الدولي) للانضمام بكامل العتاد والدفاع عنهما ضد أي “عدوان” اوكراني.
من الخاسر؟
حتى الآن لم تندلع الحرب، وحتى الآن لا زال التوتر على مستوى “الممكن والمحتمل” في وقت تتواصل فيه المساعي السياسية والدبلوماسية لتجنب حرب لن تصب في صالح اي كان.
حتى الآن، وبدون حرب خسرت أوكرانيا الاستقرار، على خلفية دعوة حوالي 34 دولة لرعاياها لمغادرة البلاد. كما خسرت اوكرانيا صورة سيد الموقف نظرا لبقائها وراء الكواليس في وقت يقرر فيه الغرب وروسيا بالتشاور بينهما ما سيحصل غدا. وخسرت اوكرانيا الامل البسيط بالانضمام إلى حلف الناتو الذي لم يبدِ ما كان منتظرا من حماس…
الخاسر الاكبر كان اوكرانيا، فحسب وكالة الانباء الاوكرانية الرسمية “بسبب العدوان العسكري من الجانب الروسي، يتكبد الاقتصاد الاوكراني خسارات كبيرة، على خلفية هروب الاستثمار الاجنبي بما يقارب 72 مليار دولار“.
وجاء في تقرير مركز الابحاث الاقتصادية الاوكراني ” تكبد الاقتصاد الإوكراني ما بين عامي 2014 و2020، أعوام المواجهة مع روسيا، 280 مليار دولار“.
وانتهت حرب لم تكن على الجدول!
يؤكد الخبير العسكري الروسي، يفغيني لينين، قناعته بأن الحرب لن تندلع.
“أولا، أوكرانيا غير مستعدة للمبادرة بأعمال عسكرية، وثانيا، روسيا لن تنجر لتنبؤات الغرب ولن ترتدي ثوب المعتدي“.
وأضاف:” ليس لاوكرانيا اي سلطة على كل من دونيتسك ولوغانسك وبالتالي الرئيس الاوكراني زيلينسكي سيكون عاجزا عن تنظيم حرب عصابات على هذه الاراضي إلى جانب افتقار اوكرانيا للهيكلية العسكرية والقوات المطلوبة لفرض السيطرة عليهما“.
ويضيف “الأهم، هو أن اوكرانيا لم تحصل على دعم الناتو غير المشروط في اي عملية عسكرية وحتى فشل زيلينسكي في الامتثال لاتفاقيات ميسنك ورقة تلعب ضده على الصعيد العام“.
لماذا لن تهجم روسيا على اوكرانيا؟ “بمجرد أن تبدأ هذه الحرب، سيكون من المستحيل انهاؤها! حتى مع السيطرة على كامل الاراضي الاوكرانية ستواجه روسيا حكومة اوكرانية في المنفى يدعمها الغرب ويغذي حرب عصابات ضد موسكو..
فهل يحتاج الكرملين إلى ذلك؟“.
بوتين وزيلينسكي يواجهان انتخابات في العام عينه عام 2024.. ربما هما الرابحان الوحيدان من هذه الحرب الوهمية، وربما المستقبل سيثبت العكس.