في آذار 2004 كان لقاؤنا عند علي العلي للاحتفال باكتمال المرحلة الأولى من مشروع المدينة الجامعية في المون ميشال، حيث اكتملت الاستملاكات ونقلت الملكية، وكلّف مجلس الإنماء والإعمار شركة “لاسيكو”إنجاز الدراسات لعشر كلّيات.
كنت قد تأثّرت بما اتهمنا به البعض خلال لقاءاتنا الإعدادية الكثيرة مع نخب وفاعليات ومسؤولين وهيئات المجتمع المدني، بأنّ “أصحاب السوابق اليسارية” يعملون على نقل الجامعة من قبّة النصر للمون ميشال. وهذا سيؤثر سلباً على المنطقة التي دفعت خلال عقود أثماناً مضاعفة في الحروب والنكبات والهجرات الريفية، ما حوّلها من تلّ أخضر جميل محتضن للإرساليات التربوية ومطلّ على المتوسط الأزرق، إلى منطقة مهمّشة مزروعة بالإسمنت والفوضى.
الأبنية الجامعية العشوائية في القبّة لم تفعل الكثير في تحسين البنى الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في المنطقة، فهي كانت بالكاد تشبه الأبنية الأكاديمية ومعظمها كانت ثكنات عسكرية، وفي الواقع فإنّ من المستحيل عملياً بناء مدينة جامعية فيها.
جانب من الجدار.
شكّل المون ميشال الموقع الطبيعي والمثالي للمدينة الجامعية، إذ يسهل الوصول إليه من جميع مناطق الشمال ويعيد لها التنوّع الطالبي، وخصوصاً إذا ما أُنجز الطريق الدائري للعاصمة الشمالية. والكلّيات التي أنشئت في الموقع أثبتت صحّة ما قلناه.
فكرة جدار فنّي على حائط كلّية العلوم في قبة النصر، التي هدفت لإطلاق حافز ثقافي وإنمائي في المنطقة، بدت سوريالية بعض الشيء. وإن لم تكن جديدة في الفيحاء، أو في مناطق أخرى في لبنان الغنيّ بالفنانين التشكيليين.
الجديد هو أنّ الفكرة استقطبت مجموعة مميزة من الفنانين، وخصوصاً حين أدركوا أهمية المكان والموقع. فشارع الجيش في القبة يشكّل حلقة وصل بين المدينة وكثير من أقضيتها، فضلاً عن أهمية البناء التاريخية والتراثية والثقافية وحتى السياسية. ذلك أنّ الموقع كان مركزاً لقيادة الجيش الفرنسي خلال الانتداب، وتحوّل بعد الاستقلال إلى مهنية الآباء البيض، قبل أن تتوقف عن العمل مع بدء الحرب الأهلية التي انفجر جانب منها في جوار المكان، وتمددت صعوداً لترسم خطوط تماسّ بين الأهالي. ولاحقاً احتلّته القوّات السورية ضمن إطار قوّات الردع العربية أواخر 1976 بعد مؤتمر الرياض، قبل أن تبدأ كلّية العلوم في الشمال بقضمه تدريجياً وصولاً لإشغاله كاملاً.
في البداية فكّرنا بإصلاح الجدار وتحويله منصّة لتخريج طلّاب قسم الفنون التشكيلية، في كلّية الفنون القريبة من المكان. وهي فكرة نبتت مذ سعينا بنجاح إلى عرض لوحات التخرّج على جدران فروع الجامعة اللبنانية، في محاولة لتطوير الحسّ الفني والثقافي لأهل الجامعة، عوض تكديسها في مستودعات المعهد. إلّا أنّ الأساتذة وخصوصاً ال#طرابلسيين منهم، عرضوا أن يحوّلوا الجدار بأنفسهم إلى تحفة فنية إذا أمّنا لهم الموادّ الضرورية لذلك، مستعيدين سيرة الفنانين العشرة التي انطلقت في سبعينيات القرن الماضي من الرابطة الثقافية. إذ لطالما شكّلت الثقافة بتنوعاتها عنصراً أساسياً في النهضة الحداثية الطرابلسية، ولطالما شكّلت أحد مداميك مقاومة الطرابلسيين لمحاولة تنميط المدينة الأصيلة وتهميشها، التي لقّبها مدينةَ العلم والعلماء، النظامُ السوري وأتباعه الممانعون، أو بعض الإسلاميين الظلاميين أوبعض رموز الإقطاع السياسي الطرابلسي.
وبالفعل فقد تدفّق الفنانون نحو الجدار، يتقدّمهم ثلاثيّ بناة المعهد من الفنانين العشرة، وفضل زيادة وعدنان خوجة ومحمد عزيزة، وبالطبع زميلنا في لجنة متابعة المدينة الجامعية مندوب أساتذة الفنون علي العلي.
جدارية “منظر بحري” لعلي العلي.
شكّلت الجداريات الأولى المنجزة، بما حملت من تقنيات ومعان وجمال، جاذباً استثنائياً للإعلام المرئي والمكتوب، إذ أعاد إظهار جانب من الطاقة الحضارية التي تختزنها الفيحاء، وفي موقع لا يزال يحتضن تنوّعاً يكاد يلخّص العائلة اللبنانية رغم ما مرّ عليه من أحداث ومآس.
لم يكن غريباً أن تتمدّد هذه الظاهرة في المدينة بعد زلزال اغتيال الحريري، وقد بدت وكأنها سلاح الطرابلسيين في مواجهة الإجرام والاحتلال. لذا تحوّل سور مركز الاستخبارات السورية في مار مارون وأسوار أخرى أعمالاً فنية، في خضمّ الانتفاضة السيادية حتى لُقبت طرابلس المنتقَصة مدينة الجداريات.
في خضمّ هذا الحراك الثقافي الكبير، تحوّل جدار #بوزار في القبّة إلى قِبلة للفنانين التشكيليين اللبنانيين وغير اللبنانيين، وأدّت المنافسات الفنية الودّية دوراً في جذب الأسماء الكبيرة التي عملت بشغف ومهنية وإخلاص، علماًأنّ بعض هذه الأعمال استمرّ إنجازه شهوراً وسنوات.
في خضمّ هذا الحراك الحضاري تعرّفنا إلى الفنان التشكيلي الراحل د.#الياس ديب. وسرعان ما أدركنا أنّ ابن بلدة جون الشوفية الذي ولد وتربّى في الأشرفية، حيث لجأ والده للعمل وكسب العيش هناك، هو من عشاق الحاضرة الشمالية وتربطهبها وبفنانيها وشائج وعلاقات خاصّة، بدأت منذ أيام الدراسة في معهد الفنون في بيروت، حيث تعرّف إلى عدنان وفضل وفيصل وآخرين. وفي باريس التي تابع فيها الدكتوراه، وعمل على الإخراج الفني في صحف ومجلّات عربية تصدر فيها، لمتابعة الدراسة بعد أن توقفت منحته الجامعية خلال الحرب، تعزّزت علاقته بزملائه الطرابلسيين الذين تابعوا دراساتهم العليا في باريس أيضاً، كما ساعد الفنانين العشرة في الثمانينيات في إقامة معرضهم حتى أصبح واحداً منهم.
رغم إقامة الياس المديدة في باريس خلال فترات الحرب الأهلية واقترانه بسيدة باريسية، كان يعود دائماً إلى لبنان. حتى إنه درس في كلية الفنون الجميلة في طرابلس خلال بعض سنوات التسعينيات (كما في السنوات الأخيرة التي أشرف فيها أيضاً على رسائل بحثية في الماستر والدكتوراه لطلاب شماليين)، ما أضفى على الكلّية المستحدثة بهمّة زملائه نكهة إضافية. فتنقّلات الياس وتنوّع روافده الفنية والثقافية، أكسبته خلطة إنسانية جميلة.أمّا المعاناة المترافقة مع ضعف الإمكانيات ووفاة الوالد المبكرة والحروب العبثية، فضلاً عن تبدّلات الإقامة وتقطّع العمل، فلم تؤثر في الطيب والبساطة الجينية لابن البلدة المتنوّعة. ربما لهذا السبب تعلّق الياس بطرابلس، واجداً في طيب وبساطة وانفتاح أهلها بعضاً من رومانسية، بات يفتقدها في باريس وحتى في بيروت.
بدأ الياس العمل على جدار بوزار في ربيع 2006، وقد اختار لعمله موضوع الهجرة والاغتراب. ورغم أننا خيّرناه بين أن يسكن في بيت الفن المرمّم أو في الكواليتي إن، اختار المبيت في بيت الحلاق الشاب وسيم أمام الجدار، بادئاً إعداد مشروع “جدارية الانتشار”.
كان عدنان خوجة صديق الياس، الذي أنجز سابقاً جدارية العنفوان عن طرابلس، يدير في منشية المدينة مشروعاً لإنجاز بضع منحوتات، بمشاركة نحّاتين لبنانيين وعرب وأوروبيين، فاختار الراحل بقايا حجارة الأعمال لتشكّل جزءاً من الجدارية.ذلك سيخلق رابطاً حميماً بين المنحوتات وجدار بوزار، وبين قلب المدينة وأحيائها. اختار الياس النحاس موادّ تشكيلية لبوصلة الجهات ولانتشار اللبنانيين، وغصن الزيتون الذي يرمز إلى الكورة وعكار. وقد قضينا أوقاتاً طويلة وممتعة في سوق النحاسين، حيث عمل الراحل على إنجاز بعض المكوّنات النحاسية للجدارية في محترف قديم في السوق، بينما أنجزت دائرة الانتشار وطيورها في مشغل صديقنا فيصل مجانيني في شارع عزمي. وكنّا نقضي ثلاثتنا أحياناً بعض السهرات في شارع “مينو”التراثي، الذي كان يشهد آنذاك جزءاً من الحراكات الثقافية الطرابلسية، التي أعقبت اغتيال الحريري وثورة الأرز،وخروج القوات السورية من المدينة.
في الواقع، فإنّ علاقتنا مع جميع الفنانين الذين عملوا على جدار بوزار للسلامقد طبعها الودّ والتقدير، وخصوصاًأنهم قدّموا أفضل ما عندهم.
فالفنانون الطرابلسيون أعادوا بأعمالهم على الجدار إبراز الدور الثقافي والفني المميز للفيحاء. وقد تضمّنت أعمالهم مواضيع تطال طرابلس والميناء والريف الشمالي، فضلاً عن مواضيع الحداثة والإعمار، باعثين سيرة الفنانين العشرة، علما أنّ الياس ديب سيحقق لاحقاً مجلداً رائعاً وغنياً عنهم.
أهدى وجيه نحلة إلى الجدار “أرابيسك” تحاكي تاريخ المدينة وتراثها الجميل.ونقل سامي بصبوص جزءاً من أريحية بصابصة راشانا على الجدار، فيما قدم ابن برج البراجنة سليم حاطوم رائعة الحرب والسلام.
أظهر السوري عبد المحسن خانجي في جدارية الأمل، حجم القمع الممارس على الشعب السوري من جلّاديه، فاتحاً نافذة للأمل. أما المصري جمال عبد الناصر، فقد فضّل إبراز التواصل التاريخي والجمالي والثقافي بين مصر ولبنان. فيما أظهرت الألمانية كلوديا فالديه قدرة طلّاب الجامعة على مقاومة السواد، الذي مثّله احتلال الممانعين لوسط بيروت وحصار السرايا حين بدأت جداريتها.
أما الياس الذي أبرز من خلال “الانتشار“حجم الخطر الذي يتهدد بلد الأرز، فقد أظهر في الوقت نفسه أصالة اللبنانيين، الذين يحملون معهم هموم وطنهم أينما حلّوا.
وبهذا المعنى فقد مثّلت جداريته قوّة التواصل بين اللبنانيين، وحجم الطاقة الإيجابية للاغتراب.
جدارية “الانتشار” لالياس ديب.
شكّل إنجاز جدارية الياس في القبة بداية علاقة استمرت حتى رحيله قبيل عيد الحبّ في باريس مؤخراً. فهو كان زميلاً في الجامعة اللبنانية في طرابلس، وباحثاً في المعهد العالي للدكتوراه مع عدنان والراحل مصباح الصمد، الذي كان من مؤسسي جمعية “بوزار” ولجنة المتابعة للمدينة الجامعية في المون ميشال. كذلك كانت تجتاح الياس الهموم والأفكار والآمال نفسها التي حملها جيلنا، وخصوصاً بعد هزيمة 1967.
وحين أسّسنا حركة “بوزار” للثقافة والتنمية كان الياس من أوائل روّادها.
ذلك أنه كان يعدّ نفسه طرابلسياً بامتياز، وقد أعطى المدينة الكثير من طاقته وفنّه وثقافته، وخصوصاً حين انتُخب رئيساً لجمعية الفنانين التشكيليين في لبنان. وقد آلمه تحويل المدينة إلى ساحة لتبادل الرسائل الدموية بموازاة الربيع الدامي السوري، إذأُقحمت في جولات عديدة من الاشتباكات بين الأهل لإضعافها وتهميش دورها، فأقام المعارض في منتدياتها وفي في جامعاتها. كماساهم في كثير من النشاطات، التي تُظهر الوجه الثقافي والمدني الحقيقي للمدينة المستهدفة وللشمال عموماً.
في 2013، وفي خضمّ هذه الجولات العبثية، أقامت جمعية “بوزار” في الرابطة الثقافية حفل تكريم الفنانين الذين عملوا معها، ضمن شعار “بوزار تمحو خطوط التماسّ الطرابلسية”. وكان أحد عناوين جريدة “النهار” في 27-2-2005، إبان انتفاضة الاستقلال الثاني.
وفي كلمته التي ألقاها باسم المكرَمين، ناشد الياس ديب الطرابلسيين الحفاظ على مثلّث الطيب والأصالة والانفتاح، الذي لا يزال يميّز أهل المدينة العربية العريقة،التي نادراً ما تستعمل كلمة غريب لأيّ زائر لها، مقدّراً تمسّكها بمؤسسات الدولة رغم سياسة الكيل بمكيالين التي تعاني منها، متمنياً على فاعلياتها وعلى نخب المجتمع المدني فيها، مضاعفة الجهود لوقف جولات العبث الدموي فيها.
لم ييأس الياس رغم كلّ ما مرّ على البلد من مآس وانهيارات، وظلّ يعتقد أنّ الثقافة عموماً (والفنون خصوصاً) تشكّل وسيلة أساسية من وسائل مقاومة الظلم والقمع والاحتلال. وهي سلاح قويّ استعمله المنتفضون ببراعة، وشكّل جاذباً للحشود المتنوعة، كما للإعلام العربي والدولي في الأيام الأولى من انتفاضة الغضب، قبل أن تتعرّض للتسلّط ويخترقها الإحباط والأعمال الفردية، فضلاً عن تداعيات الجائحة اللعينة.
لم ينفكّ الياس ديب، رغم ما عاناه من أزمات صحّية في السنوات الأخيرة، عن تحفيزنا لترميم الأعمال الفنية، واضعاً نفسه في مقدمة المتطوّعين، وخصوصاً في منطقة بوزار في القبة، حيث جدار السلام ونصب التواصل الثقافي والاجتماعي.
وإذا كان عزاؤنا جميعاً في رحيل الياس يكمن في ما تركه منقيم وأعمال ثقافية وأكاديمية، كتابة ورسماً ونحتاً وتشكيلاً، فإننا نأمل أن تساعدنا الأيام والظروف القادمة في تنفيذ رغبته بترميم الجدار ومحيطه وإنشاء المركز الثقافي الإنمائي. إذ لا قيامة لهذا البلد المعذّب، إلّا باستحضار الذخيرة الإنسانية التي تركها الياس وغيره من عاشقي هذا الوطن الجميل.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس