الإهداء
الى أطفال « مخيم الشاطئ » في غزة، الذين رأيتهم يلعبون حفاةً وسعداء في مياه المجاري وسط أكواخ تعيسة!
*
(سألت سمكة صغيرة أمها السمكة الكبيرة وكانا يسبحان في النهر الكبير: « أمي، كيف نعرف أننا ما زلنا على قيد الحياة؟ » أجابت الأم: « يا إبنتي، يجب أن تعرفي بأن الأسماك الميتة تسبح مع التيار »!)
*
مقدمة
هذا ليس كتابا سياسيا، ولكنه ممكن أن يندمج تحت باب أدب الرحلات. وأحاول هنا تسجيل فرصة لم تُتح لكتاب كثيرين، ولكنها أتيحت لي لزيارة معظم مدن فلسطين وإسرائيل في الفترة بين 1994 و1995 عندما كنت أعمل مهندسا في شركة أمريكية في ولاية نيوجيرسي. وقامت الشركة بتعييني مديرا لمشروع إسكان في معسكر « جباليا » بمدينة غزة، وكان هذا المشروع ممولا من « هيئة المعونة الأمريكية ».
بعد توقيع اتفاقية أوسلو في عام 1993 في مدينة واشنطن بحضور ياسر عرفات وإسحق رابين وبيل كلينتون وحسني مبارك والملك حسين، كانت هناك موجة من التفاؤل في الشرق الأوسط بأن السلام سوف يحل، أخيرا، بين الفلسطينيين والإسرائيليين, وفاز كل من ياسر عرفات وإسحق رابين وشيمون بيريز بجائزة نوبل للسلام عام 1994 تقديرا لمجهوداتهم. ولكن هذا التفاؤل تبخر بعد اغتيال إسحق رابين عام 1995 على يد متطرف يهودي، وتولى المتطرفون من الجانبين الحكم. فتولى بنجامين نتنياهو الحكم في إسرائيل، واستولت « حماس » على قطاع غزة، وتم قتل كل محاولات السلام. ولن أتطرق للسياسة في هذا الكتاب، ولكني سوف أركز على حياة الفلسطينيين والإسرائيليين العادية واليومية كما شاهدتها على أرض الواقع، لا من خلال قناة « الجزيرة »، أو « سي إن إن »، أو حتى قناة « بي بي سي ».
…
الهدف من كتابي هو أن أبعث لفحة أمل في أتجاه السلام بين الشعبين الذين يجب عليهما الاقتناع باقتسام الأرض فيما بينهما، لأنه لا يوجد حل آخر! فمهما انقضى من الزمن فلن يستطيع العرب إلقاء اليهود في البحر، ولن يستطيع اليهود إلقاء العرب في الصحراء، وعليهما أن يعرفا كيف يمكن أن يتعايشا سويا حقناً لدماء الأبرياء، ونبذ ثقافة الكراهية التي يقومان بحقنها لأطفالهم في المهد.
وقد يتساءل قارئ: لماذا انتظرت أكثر من ربع قرن لكتابة تلك المذكرات؟
والإجابة بسيطة: لم يخطر ببالي قط أن أكتب تلك المذكرات لأسباب عديدة منها، أولا: أني لست كاتبا محترفا، ولكني هويت الكتابة «على كَبَر وأعتبر أن الكتابة بالنسبة لي أرخص من الطبيب النفسي! وثانيا: أنني كنت أعتقد أن هذه الذكريات غير مهمة بالنسبة لأي أحد، فلماذا العناء اذا لم يطلع عليها أي قارئ! وثالثا: أني خشيت أن يفهم أعداء السلام بأن هذه مذكرات مدفوعة الأجر من “الكيان الصهيوني”! ومن هو سامي البحيري هذا الذي لم نسمع عنه من قبل؟ ألا يجوز أنه أحد عملاء الموساد؟ (طبعا كما يعرف معظم العرب فإن تهمة الخيانة والعمالة هي تهمة جاهزة لإخافة كل من يتجاسر على السباحة ضد التيار).
طيب هذا جميل! إذاً، لماذا قررت نشرها في هذا التوقيت بالذات؟ الحقيقة هي أنها: “قامت في دماغي” فجأة، مؤخراً، بعد أن رأيت مئات الضحايا، والدمار الذي يحدث كل عدة سنوات بين الفلسطينيين والإسرائيليين، ويمكن أن يعطي هذا الكتاب الأمل للشباب في للإقتناع بأن السلام والأمن والأمان هم الأصل، وهم هدف إنساني منذ بدء الخليقة، وأن الصراع والحرب هما الاستثناء ولا يمكن أن يستمرا للأبد.
هذا الكتاب دعوة للسلام والتفاؤل ومحاولة العيش سويا كبشر على قدم المساواة.
…
وأود أن أشكر الإستاذ “بيير عقل” صاحب الموقع الليبرالي “شفاف الشرق الأوسط”، الذي أقنعني بضرورة نشر تلك المذكرات ووافق على نشرها على حلقات في الموقع. وأتعشم بعد الانتهاء من نشر الحلقات أن أنشرها في كتاب بالعربية، وأتعشم أن يتم ترجمته للعبرية والإنجليزية.
فلوريدا عام 2021
***
البداية
ما بين أعوام 1985 إلى 1988 كنت أعمل مهندسا لدى شركة أمريكية، وكنا نقوم ببناء محطة كهرباء حديثة في مدينة « طلخا » شمال دلتا مصر. والمحطة كانت ممولة أساسا من « هيئة المعونة الأمريكية ». وخلال تلك الفترة، أخذت تجربة وخبرة جديدة حيث كانت أول مرة أعمل لدى شركة أمريكية، واستفدت كثيرا من حيث تعلم تقنيات هندسية جديدة، وخلالها سافرت إلى ولاية بنسلفانيا حيث المقر الرئيسي للشركة في دورة تدريبية، وكل هذا جهزني لتجربة الهجرة التي حدثت دون تخطيط مسبق وبطريقة عفوية. ففي عام 1989، عملت في شركة خليجية لها استثمارات عقارية في أمريكا، وطلبوا مني التوجه إلى أمريكا لعمل تقرير عن مشروعاتهم هناك، وذهبت بهدف قضاء شهرين أو ثلاثة لكي أعود بعدها إلى الخليج ومعي تقرير عن المشروعات. ولكن، ما حدث أن صاحب الشركة بعدما قرأ تقريري طلب مني العودة إلى أمريكا وفتح مكتب تمثيل للشركة لمتابعة المشروعات عن كثب، وهذا ما حدث بالفعل. وفي بداية التسعينيات طلب مني صاحب الشركة غَلق مكتب أمريكا والعودة للخليج، ولكني فضلت الاستمرار في أمريك. وفي بداية عام 1994 طلب مني مدير الشركة الذي كنت أعمل معه في محطة الكهرباء في مصر أن ألتحق بشركته الجديدة في أمريكا في ولاية نيو جيرسي. والتقيت بمديري الشركة هناك، وفوجئت بأنهم عرضوا على أن أعمل لديهم في مكتبهم بالقاهرة. وبالفعل، رحبت بالفكرة جدا، حيث كانت فرصة ممتازة من الناحية الاجتماعية والمالية، حيث سوف أكون وسط الأهل والأصدقاء، وفي نفس الوقت أحصل على نفس الراتب التي أحصل عليه في أمريكا!
وقررت الذهاب أولا للقاهرة وتركت أسرتي في ولاية فلوريدا لكي أعرف طبيعة عملي لدى تلك الشركة، ولكي أجهز بيتي في القاهرة. وعندما وصلت الشركة وجدت ترحيبا من معظم الموظفين سواء الأجانب أو المصريين، ولست أدري أن كان هذا الترحيب حقيقيا أو مفتعلا حيث أن الجميع عرفوا أنني صديق شخصي للمدير الأمريكي للشركة (بيتر)، وهو من قام بترشيحي لهذا المنصب!
وبعد عدة أسابيع من وجودي في مكتب الشركة في « ضاحية المعادي » بالقاهرة، طلب مني مدير الشركة (بيتر) الحضور إلى مكتبه، ولما ذهبت قال لي: لقد جاءتنا اليوم دعوة من « هيئة المعونة الأمريكية » للاشتراك في مناقصة بين عدة شركات أمريكية وفلسطينية لإنشاء مشروع إسكان في مدينة غزة، وقال لي: لقد قررت أرسالك لأني لا أستطيع أرسال أي من المهندسين الأجانب لأنهم لا يعرفون اللغة العربية كما أن وجود بعض الأجانب في غزة سوف يكون ملفتا للنظر! ورحبت بالفكرة رغم أن زوجتي قالت لي: « أنت مجنون، حّد يسيب أمريكا ويروح يشتغل في غزة؟ » قلت لها: أنا متفائل بالسلام، خلاص الفلسطينيين والإسرائيليين وقّعوا اتفاقية سلام وكل شيء حيكون تمام، ومشروع غزة مجرد بداية صغيرة وبعدها سوف تكون هناك مشروعات أكبر لتنمية المناطق الفقيرة في فلسطين! وبالطبع، لم تقبل زوجتي سبب قبولي للمهمة. وقال لي (بيتر) بلهجة فيها مزيج من الجد والهزل: « يجب أن نفوز بهذا المشروع، وإذا لم نفز به فيستسحن ألا ترجع من غزة!!
وكانت أول خطوة هو أنه كانت يتوجب على الشركة أن ترسل مندوبا إلى غزة وإسرائيل لحضور اجتماع لكل الشركات المرشحة لتنفيذ المشروع والمشتركة في المنافسة. والسبب لزيارة إسرائيل هو أن مقر « هيئة المعونة الأمريكية » التي سوف تمول المشروع، كان بالقرب من السفارة الأمريكية في تل أبيب.
ولكي نعبر الحدود بين مصر وإسرائيل، أو حتى بين مصر وغزة، كان يجب علينا الحصول على تأشيرة إسرائيلية. وفي ذلك الوقت، لم أكن قد حصلت على الجنسية الأمريكية بعد، ولكن كان لدي :جرين كارد » فقط، ونصحني مدير شؤون الموظفين بالشركة بأن أقدم طلباً على جواز سفر مصري خاص أضع عليه التأشيرة الإسرائيلية. لأني لو وضعت التأشيرة الإسرائيلية على جواز سفري المصري العادي، فلن يسمح لي بدخول معظم البلاد العربية. وبالفعل، حصلت على جواز مصري خاص، ثم توجهت للسفارة الإسرائيلية بالقاهرة، وكانت وقتها في العمارة الشهيرة والتي تقع بحي الجيزة بالقرب من كوبري الجامعة. وأصبحت تلك العمارة شهيرة بعد صدور فيلم (« السفارة في العمارة »)، بطولة عادل إمام وداليا البحيري (وبالمناسبة ليس هناك صلة قرابة بيني وبين داليا البحيري)!
وذهبت لتلك السفارة في العمارة ووجدت نطاقا أمنيا رهيبا حول العمارة وداخل العمارة أسوأ كثيرا مما كان في فيلم عادل أمام، وشعرت بالأسى لسكان تلك العمارة والعمارات حولها للمعاناة اليومية التي يعانونها للخروج والدخول إلى محل سكنهم.
وبعد عمل مقابلة شخصية مع القنصل الإسرائيلي الذي سألني عن سبب طلبي الحصول على تأشيرة إسرائيلية. فقدمت له خطاب التعريف من الشركة الأمريكية التي أعمل بها وقام بمنحي التأشيرة وتمنى لي التوفيق، وقال لي بالعربي بلهجة مصرية: “خللي بالك من نفسك”!َ
وكان من المفروض أن يسافر معي مهندس استشاري أكبر مني في السن (مهندس كمال)، وتناقشت مع المهندس كمال عن أفضل وسيلة للسفر: هل نسافر برا عبر صحراء سيناء، أم نسافر جوا من القاهرة إلى تل أبيب؟ وفي النهاية أتفقنا أن نسافر برا من القاهرة حتى معبر رفح.
وبالفعل جهزت نفسي للسفر، وكنت في غاية من التوتر والتشوق في نفس الوقت لهذه المغامرة الجديدة، وجدير بالذكر أن معظم أفراد عائلتي لم يرحبوا أبدا بحصولي على تأشيرة إسرائيلية، أو بالسفر سواء إلى غزة أو إسرائيل، ولكني قررت المضي في المغامرة!
فكرة ممتازة أن يقوم السيد سامي البحيري بنشر ذكرياته/ تجربته الشخصية في المنطقة التي شهدت أطول صراع عرفه التاريخ المعاصر. هكذا ذكريات، لشخص أصبح كاتبا معروفا ويتمتع بأسلوب شيق وممتع في الكتابة، سوف تحظى بالتأكيد بإعجاب وتقدير القراء، خصوصاً وأن هذا الصراع أصبحت خطورته وتداعياته تزداد وتنتشر في كافة بلدان الغرب التي تتواجد فيها جاليات عربية/إسلامية/يهودية. وقد كنت خلال التظاهرات الأخيرة التي التي قامت بها الجالية العربية والإسلامية في هولندا قد دخلت في الحوار التالي مع أحد المشاركين في التظاهرة : قلت لهذا الشخص العربي/ المسلم المتحمس ما يلي: العرب والمسلمون يرون الحل في عودة اليهود في إسرائيل إلى أوروبا… Read more »