كما ذكرت من قبل، كان تمويل مشروعنا في معسكر جباليا في غزة يتم من خلال هيئة المعونة الامريكية وكان يوجد مقرها في تل أبيب وليس بعيدا عن مقر السفارة الامريكية (في تل أبيب في هذا الوقت).
وكنت أحيانا أسافر الى تل أبيب جوا مباشرة من القاهرة، والرحلة بالطائرة قصيرة (ساعة وربع الساعة تقريبا)، وكانت هناك شركتان تنقلان الركاب، شركة « العال » الإسرائيلية و شركة « طيران سيناء » والتي تم تأسيسها بعد عمل علاقات دبلوماسية بين مصر وإسرائيل. إذ كان من ضمن اتفاقيات السلام تسيير خط جوي بين القاهرة وتل أبيب، ورفضت شركة مصر للطيران الحكومية تسيير خط جوي إلى تل أبيب حتى لا يتم مقاطعتها من البلاد العربية، فتم انشاء شركة « طيران سيناء ».
وأول مرة أسافر بالطائرة إلى تل أبيب من مطار القاهرة، تذكرت الهتافات التي انتشرت في القاهرة في نهاية شهر مايو قبل هزيمة ٥ يونيو ١٩٦٧ بأيام والتي كانت تقول :”عبد الناصر يا حبيب … بكرة تدخل تل أبيب”! وتذكرت أيضا النكتة التي أنتشرت بعد الهزيمة مباشرة، والتي كانت تقول:
(قطع راديو صوت العرب برامجه العادية، وسمعنا الصوت الجهوري للمذيع احمد سعيد يقول: “الزعيم الخالد جمال عبد الناصر يتحدث إليكم من تل أبيب”، وجاء صوت عبد الناصر الفخم بادئا خطابه كالمعتاد: « أيها الأخوة المواطنون: أتحدث إليكم اليوم من تل أبيب، والحمد لله الاسرائيليين بيعاملوني كويس جدا”!!).
وقلت لنفسي بعد تذكر تلك الخواطر الأليمة والكوميديا السوداء، ها أنذا أتجه إلى تل أبيب على متن طائرة « طيران سيناء » وليس على متن دبابات عبد الناصر “الحبيب”!
وكان هناك تفتيش دقيق في مطار القاهرة قبل ركوب الطائرة، وهو تفتيش خاص برحلة تل أبيب اكثر دقة من تفتيش الرحلات الأخرى. ومطار تل أبيب كان مطارا متواضعا أصغر كثيرا من مطار القاهرة. وكان ضابط الجوازات عاديا، سألني عن سبب حضوري إلي إسرائيل وذكرت له مشروع غزة والممول من أمريكا، وبمجرد ان تذكر كلمة أمريكا في إسرائيل يرفع الجميع القبعة ويضربون لك تعظيم سلام.
…
كان دخول مطار تل ابيب سهلا. اما الخروج منه فموضوع آخر، وينطبق عليه المثل المصري :”دخول الحمام مش زي خروجه” (الحقيقة انا عمرى ما فهمت هذا المثل، لان طول حياتي ادخل الحمام واخرج من الحمام بنفس السهولة!)
…
فعند الخروج من مطار تل أبيب استمر تفتيشي والتحقيق معي حوالي ثلث ساعة، وبعد ان يحقق معي شخص يجيء شخص آخر ويعيد علي نفس الأسئلة للتأكد من أن إجابتي واحدة، ويطلبون مستندات مثل خطابات او مخططات المشروع او صوراً او كارت التعريف بوظيفتك، والموضوع ممل وسخيف. واذكر عند خروجي من مطار تل ابيب وأثناء التحقيق والتفتيش، كان بجواري رجل أمريكي وزوجته وكانا في غاية من الاستياء من طول الوقوف في طابور التفتيش، وسمعته يقول لزوجته: « لن احضر الى هذا البلد مرة أخرى أبدا »!
…
ومن قصص التفتيش للخروج من مطار تل أبيب، أن أحد المهندسين المصريين الذين كانوا يعملون معنا في غزة، قرر أن يعود للقاهرة عن طريق مطار تل ابيب لانه كان مقتنعا ان السفر الجوي اسهل واسرع كثيرا من السفر البري عن طريق معبر رفح. وكان هذا المهندس في أواخر العشرينيات من عمره، واستلمه موظفو الامن في مطار تل ابيب، واحداً وراء الاخر، يسألونه نفس الأسئلة باستفزاز، حتى جاءته رئيسة الفريق وكانت فتاة جميلة تعمل في طاقم أمن المطار، وبدأت بتوجيه نفس الأسئلة له للمرة السادسة. وكان في ما يبدو قد فقد الأمل بأن يلحق بطائرته، فلما سألته الضابطة الجميلة: لماذا اتيت الى تل أبيب؟ فقال لها: أنا بصراحة، حضرت الى تل ابيب لكي أقابلك وأراك! فقالت له: أهذا حقيقي؟ فقال لها: نعم حقيقي، فقالت: ان كان الامر كذلك فسوف تراني كثيرا، تفضل معي الان، وأخذته بعيدا عن طابور التفتيش وأدخلته الى غرفة مغلقة، ليس لها نوافذ وقبل ان تغلق عليه الباب، قالت له: “انتظرني قليلا، سوف اعود إليك فورا”! “وفورا” هذه استغرقت اكثر من ساعة، وبالطبع فاتته الطائرة. وعادت اليه ضابطة الامن وأخذت تسأله مرات ومرات وتم تفتيشه ذاتيا، وأخيرا سمح له بالخروج من المطار انتظاراً للطائرة في اليوم التالي ولكنه فضل الرجوع الى غزة وسافر من معبر رفح!
…
ومن القصص التي سمعتها عن مطار تل ابيب قصة من صديقي الكاتب المسرحي « على سالم » (مؤلف مسرحية « مدرسة المشاغبين »)، عندما قام بزيارة إسرائيل (الزيارة التي كتب عنها كتابا أدى نشره الى طرده من أتحاد الكتاب). زار « علي سالم » إسرائيل اقتناعا منه بالسلام مع إسرائيل، وطالما هناك سلام وتبادل سفارات بين مصر وإسرائيل يكون من حق أي مواطن مصري ان يقوم بزيارة إسرائيل بدون أي مشاكل. ولكن أعداء السلام لا يؤمنون بذلك، واعتبروا زيارة علي سالم لإسرائيل الخيانةَ بعينها.
وعند خروج على سالم من مطار تل ابيب سأله ضابط الامن السؤال التقليدي عن سبب زيارته لإسرائيل؟ فأخرج علي سالم صورة فوتوغرافية من حقيبته، وقال لضابط الامن: كنت أقابل هذا الرجل الذي معي في الصورة، ونظر ضابط الامن الى الصورة ووجد في الصورة رئيس الوزراء الإسرائيلي شيمون بيريز يصافح علي سالم! فضحك ضابط الامن واعطاه الصورة وسمح له بالمرور!
…
وتل ابيب هي مدينة ساحلية تأسست عام ١٩٠٩، أيام الدولة العثمانية، بواسطة مهاجرين يهود كضاحية من ضواحي مدينة « يافا » التاريخية والتي كان كل سكانها تقريبا من العرب. وفي عام ١٩٥٠ تم توحيد المدينتين تحت إدارة بلدية واحدة. وحالياً، يشكل العرب نسبة ١٥٪ فقط من سكان مدينة يافا. وتل ابيب مدينة حديثة، وهي المركز المالي والتجاري لإسرائيل وبها معظم السفارات، بالرغم من أن حكومة إسرائيل تعتبر ان القدس هي عاصمتها، وتريد من كل الدول نقل سفارتهم الى القدس كما فعل مؤخرا الرئيس ترامب بنقل سفارة أمريكا الى القدس. وتوجد اربع دول فقط لها سفارات في القدس، اما باقي الدول فتوجد سفاراتها في تل ابيب. وقد اتخذت (تل ابيب) اسمها من رواية لمؤسس الحركة الصهيونية العالمية (تيودور هرتزل) بعنوان (أرض قديمة جديدة) (١٩٠٢).
والحقيقة ان مدينة « يافا » اعجبتني اكثر كثيرا من مدينة تل ابيب لان « يافا » مدينة تاريخية ولها شخصية وجذور. ومدينة « يافا » تأسست عام ١٨٠٠ قبل الميلاد أي انها تبلغ من العمر ما يزيد عن ٣٨٠٠ سنة، وكانت تحت حكم مصر الفرعونية لمدة تقارب الستمائة سنة حتى عام ٨٠٠ قبل الميلاد. وتم ذكرها في خطابات « تل العمارنة » الفرعونية، وتم الاستيلاء على المدينة في عهد تحتمس الثالث، كما تم ذكرها أيضا اربع مرات في العهد القديم، وكانت اهم ميناء في فلسطين.
…
ومدينة تل ابيب لها شاطيء وكورنيش جميل على البحر المتوسط، وقد نزلت مرة للاستحمام في شاطيء تل ابيب في احدى زياراتي القليلة.
…
وفي مرة كنّا نتناول طعام الغذاء في مطعم بيكاسو على البحر بالقرب من السفارة، وكنا ثلاثة مصريين. وبعد ان أنتهينا في طعام الغذاء، دفعت الحساب وأعطيت الجرسونة بقشيش يعادل حوالي ١٠٪ ، وفوجئت بأنها تقول لي ان هذا البقشيش قليل! فسألتها ان كان البقشيش إجباريا، فقالت: لا انه اختياري، فقلت لها، إذاً مادام اختياريا فلن اترك أي بقشيش. وكانت الفتاة في غاية الغضب، واحسست انها فعلت ذلك باعتبارنا عربا.
…
وقد لاحظت في تل ابيب مدى التوتر والحرص الدائم على الامن في كل مكان، في المطاعم في الأسواق وفي المطار وفي الشوارع. ودائما كنت الاحظ رجال الامن يفتشون صناديق القمامة في كل مكان بحثا عن متفجرات. وهذا البحث الأمني لاحظت انه يتم بشكل دوري ومستمر، كما لاحظت أن رجال الامن في المناطق المزدحمة معهم كلاب بوليسية للتفتيش عن احتمال وجود مفرقعات. ولاحظت أيضا ان الجنود الإسرائيليين في الجيش ينزلون إجازاتهم ومعهم أسلحتهم لكي يتمكنوا من الدفاع عن أنفسهم في حالة محاولة الاعتداء عليهم.
…
ومرة عزمني رئيسي في العمل (وكان في زيارة لإسرائيل) على طعام العشاء في مطعم سمك جميل في يافا على شاطئ البحر. وفوجئت بأن الجرسون الذي يخدمنا شاب مصري، وقلت له: إيه يابني اللي جابك تشتغل هنا؟ قال لي: « انا اتخرجت من الجامعة ومش لاقي شغل في مصر، أولاد الحلال بلدياتي أقنعوني اني اشتغل في يافا، وقالوا لي انت حتشتغل في فلسطين مش في إسرائيل، ومكنتش عارف ان يافا جزء من إسرائيل »! فسألته: طيب وانت مبسوط هنا؟ فقال لي : الحمد لله، ده فيه هنا مصريين كثير بييحوا يشتغلوا ومبسوطين، وأهي كلها بلاد الله، أحسن من البطالة، لان “الايد البطالة نجسة”!
…
وقد لاحظت ان هناك تعايشا بين القلة العربية في يافا وبين الأغلبية اليهودية، حتى اني رأيت مخبزا كبيرا في مدينة يافا وعليه زحام وإقبال وطوابير من المواطنين العرب واليهود. وقيل لي ان صاحب هذا المخبز فلسطيني وهو « مخبز أبو عافية » وقد تأسس عام ١٨٧٩، وهو أفضل وأقدم مخبز في منطقة تل ابيب ويافا، ويحضر له المواطنون من كل مكان في المنطقة لجودة وشهرة مخبوزاته.