(صلاة اليهود في الكنيس في يوم كيبور” صورة الرسام اليهودي ماوريتسيو جوتلب من 1878)
كما ذكرت من قبل، عندما عاد ياسر عرفات إلى غزة، نزل هو ومساعديه في « فندق فلسطين »، وهو نفس الفندق الذي كنّا نقيم فيه. وكانت تحج الى الفندق وفود كثيرة احتفالاً بأبو عمار زعيم فلسطين وأملها في المستقبل.
وفي يوم ما، وبعد عودتنا من موقع المشروع، فوجئنا بصاحب فندق فلسطين يطلب مني التحدث على انفراد. دخلت مكتبه ووجدته يخاطبني ووجهه في الأرض ويقول: “الختيار” (يقصد ياسر عرفات) طلب مني تفريغ الفندق من النزلاء! فقلت له: خير حصل حاجة؟ فقال: لا، لكن أبو عمار جاء له ضيوف اليوم ولا يدري أين سوف يقيمون؟ فلم يجد سوى « فندق فلسطين ».
وطبعا أسقط في يدي لأننا كنّا أربع مهندسين نحتل أربع غرف في الفندق، ولا أدري أين سوف نقيم! فسألت صاحب الفندق: طيب، أين سنذهب؟ فقال: لا يوجد مكان في غزة يناسبكم واقترح ان تذهبوا إلى « عسقلان ». فسألته: أين « عسقلان »؟ فقال: في إسرائيل وعلى بعد حوالي ٢٠ كيلو متر من غزة، ولكن أسمها الان « أشكلون ».
وطبعا نحن كنّا غرباء في غزة إلى حد ما، ولكن بدأنا في التعود على الحياة هناك. فكيف نذهب إلي إسرائيل آخر اليوم ،ونبدأ في البحث على اربع غرف في فندق في « عسقلان » او « اشكلون »؟
ولاحظ صاحب الفندق قلقي الشديد فقال لي: لا تقلق يا باشمهندس، دي مسألة ليلة واحدة فقط، بعدها ترجعوا عندنا تاني في « فندق فلسطين ».
بالطبع، الموضوع اصبح أسهل كثيرا لانها ليلة واحدة نقضيها سواء بالطول او بالعرض.
…
وزفيت الخبر السعيد لزملائي المهندسين الثلاثة بأن « الختيار » قد طردنا من الفندق وأننا سوف نبيت الليلة في إسرائيل. وأصابهم وجوم من جهة ومن جهة أخرى قالوا: كويس نجرّب الأكل في « عسقلان ».
وصعدنا إلى الغرف ونحن نلعن (في سرنا) سوء تخطيط “الختيار” ولكن خفف همنا بأن “كلنا في الهم شرق”!
وجهزنا الشنط ونزلنا إلى بهو :فندق فلسطين ». وعندما رأى صاحب الفندق اننا نأخذ كل الشنط معنا، عرض علينا ان نأخذ فقط ما نحتاجه خلال ليلة واحدة ونبقى على الشنط في مستودع الفندق. وكانت فكرة جيدة شكرناه عليها، ويبدو انه فعل ذلك خشية ان يعجبنا “الجو” في عسقلان ولا نعود إلى غزة مرة أخرى!!
وأخذنا سيارتنا الامريكية الشيفروليه البلازر واتجهنا شمالا في اتجاه « عسقلان » (اشكلون). وتعرضنا للمضايقة “والرذالة” التي تعودنا عليها من جانب جنود التفتيش الإسرائيليين، وبعد حوالي نصف ساعة من التفتيش خرجنا من غزة وأصبحنا داخل الأراضي الإسرائيلية، والمسافة من وسط مدينة غزة الى خارج مدينة عسقلان لا تتعدى العشرين كيلو مترا. و دخلنا « عسقلان » وقت الغسق (بعد الغروب)، وأحسست بالفارق العمراني الكبير بين مدينة غزة ومدينة اشكلون، وكأننا ركبنا آلة الزمن وتحركنا الى المستقبل على الأقل مائتي سنة الى الامام. وذكرتني مدينة اشكلون بمدينة سان دييجو الساحلية في ولاية كاليفورنيا.
…
ولم نكن نعرف أي شيء في المدينة، ولم يكن لدينا خريطة للمدينة، ولم يكن لدينا « جي بي إس » بالطبع! وكان هدفنا ان نرى أي فندق نبات فيه ليلة واحدة. واتجهنا الى ما يبدو أنه وسط المدينة، وأذكر أنه كان مساء يوم الجمعة، واحتفال اليهود بيوم السبت (أو « شابات ») يبدأ من غروب يوم الجمعة وحتى غروب يوم السبت، حيث اننا لاحظنا أن العديد من المحلات كانت مقفلة. ووجدنا مقهى مفتوحا، وعلى الرصيف اصطفت بعض الطاولات التي جلس وراءها بعض الشباب، فتوقفنا وسألناهم باللغة الإنجليزية عن أقرب فندق، فأشاروا إلى آخر الشارع وقالوا لنا: هناك فندق اسمه “فندق الملك شاؤول”.
…
والملك شاؤول هو اول ملوك بني إسرائيل ومذكور في العهد القديم. وهو من سبط بنيامين واختاره النبي صموئيل لكي يكون ملكا على بني إسرائيل بأمر من الله. ولم يعجب الحال بني إسرائيل هذا الاختيار لان الملك شاؤول لم يكن غنيا او ذا جاه! وفي القصص القرآني، الملك شاؤول هو « طالوت »، وجاء في سورة البقرة ما يلي:” وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوٓاْ أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ ٱلْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِٱلْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ ٱلْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ ٱللَّهَ ٱصْطَفَىٰهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُۥ بَسْطَةً فِى ٱلْعِلْمِ وَٱلْجِسْمِ ۖ وَٱللَّهُ يُؤْتِى مُلْكَهُۥ مَن يَشَآءُ ۚ وَٱللَّهُ وَٰسِعٌ عَلِيمٌ”
وفي العهد القديم ان الملك شاؤول (طالوت) قاد الجيش للانتصار على جيش جالايت (جالوت)، واستطاع النبي داوود قتل جالايت (جالوت) بالرغم من عدم تكافؤ القوى.
…
وبذلك رحبنا بفكرة ان ننزل في فندق الملك شاؤول بالرغم من اننا لم نكن نعرف ان شاؤول كان أول ملوك بني أسرائيل ولم نكن نعرف إن الملك شاؤول هو نفسه طالوت المذكور في سورة البقرة. وخيرا فعلنا بأننا لم نكن نعرف، لأن الجهل أحيانا نعمة كبرى! فقد اتضح لنا أن فندق شاؤول هذا هو المفضل لدى بعض اليهود الأمريكان الاورثوذكس المتشددين! فعندما دخلنا بهو الفندق وجدناه فندقا بسيطا من ذوي الثلاث نجوم، وقلنا ان هذا ممتاز بالنسبة لميزانيتنا. وكان في بهو الفندق مجموعة من اليهود بملابس الأرثوذكس يرتدون حراما ابيض كبيرا بخطوط مستقيمة سوداء، والقلنسوة اليهودية اليهودية المعروفة، ويرتدون أيضا على جبهتهم حزام جلد اسود وفي وسطه شيء يشبه البوصلة، وأيضا يربطون حول أذرعتهم رباطا مطاطا بشكل حلزوني بطول الذراع. والحقيقة ان منظرهم أقلقني قليلا لانه ذكرني بمجموعات « تنظيم الجهاد »، نفس التجهم والصرامة والتجمع معا خلف قائد أو أمير، حتى لو كانوا أربع أفراد.
وتقدمت من موظف الاستقبال وكان شابا صغير السن ودار بيني وبينه الحوار الآتي باللغة الانجليزية:
هو: أهلا كيف يمكنني أن أساعدك
أنا: نريد اربع غرف لأربع أشخاص لمدة ليلة واحدة
هو: نحن في عطلة السبت ولا نستطيع العمل
أنا: نحن هنا أغراب من مصر وهذه أول مرة لنا في اشكلون، ولا ندري أين نبيت، ساعدنا من فضلك!
هو: أومأ الي الشاب برأسه وأقترب من أذني هامسا:
لو قبلت نزولكم في الفندق الان فان هؤلاء الأمريكان يمكن أن يقتلوني!
وذعرت من فكرة قتل هذا الشاب لمجرد انه يقوم بعمله يوم السبت (الشابات)، وقلت له: طيب ما العمل؟
فقال لي وهو يشير الى باب خلف كونتر الاستقبال: تعال معي داخل المكتب
وتبعته الى داخل المكتب.
وفي داخل المكتب، اعتذر، وقال لي: هؤلاء المتشددون اليهود لا يرحمون
وقلت له: ولكنك يهودي أيضا على ما أعتقد؟
فقال: نعم انا يهودي، ولكني لست منهم ولا هم مني.
فقلت له: أرجوك انا اريد أربع غرف لمدة ليلة واحدة وسوف ننصرف صباح غد.
فقال لي معتذرا: ليس لدي سوى غرفتان، ممكن ان يبيت كل شخصان في غرفة.
فقلت له: أوك، ما دام هذا هو المتاح
وأعطيته « الكريدت كارد » لدفع حساب الغرفتين.
وأعطاني مفتاح الغرفتين، وخرجت من مكتبه الى بهو الفندق ووجدت زملائي تعلو وجوههم علامات القلق والاستفهام. وأشرت لهم بدون أن يلحظ هؤلاء اليهود المتشددون بأن كل شيء تمام واتجهنا ألى مصعد الفندق. وأخذت أنا والمهندس محمد بدر غرفة، وأخذ المهندس تامر والمهندس علي زاهر الغرفة الأخرى.
…
واتفقنا ان نلتقي صباحا في مطعم الفندق بالدور الأرضي الساعة الثامنة صباحا. وتقابلنا بالفعل في المطعم ولاحظنا ملاحظة غريبة انه لا يوجد في المطعم سوانا! ولاحظنا أيضا عدم وجود أي جرسونات لخدمة الزبائن! ولاحظنا مرور أحد موظفي المطعم، وسألناه عن جرسون لكي يحضر لنا طعام الإفطار، فقال لنا: اليوم صيام ولا يوجد طعام الا بعد غروب الشمس! وتخيلنا اننا في فترة رمضان اليهودية! وسألنا الموظف عن سبب الصيام، فقال لنا اليوم هو “يوم كيبور” أو “عيد الغفران” وفيه يصوم اليهود يوما كاملا، فقلنا له: لكننا لسنا يهوداً، ونريد تناول طعام الإفطار الذي دفعنا ثمنه من ضمن فاتورة الفندق! فتفهم الموظف موقفنا بصعوبة، لانه لم يصدق ان هناك أناا غير يهود ينزلون فندق الملك شاؤول!
وأحضروا لنا بصعوبة وخلسة أفطارا بسيطا عبارة عن جبنة بيضاء وبيض مسلوق وعسل وشاي وقهوة.
…
واتضح ان « يوم كيبور »ر هو اهم يوم في الديانة اليهودية، ولذلك كانت خطة السادات الجهنمية في حرب أكتوبر ١٩٧٣ انه هاجم إسرائيل في يوم ٦ أكتوبر وهو « يوم كيبور » حيث باغتهم في عز ظهر يوم « كيبور »! ولذلك اطلق الإسرائيليون « حرب يوم كيبور » على حرب أكتوبر، ربما لكي يبرروا عدم استعدادهم للهجوم المصري بسبب يوم كيبور المقدس! كما أطلق الإسلاميون المصريون على حرب ٦ أكتوبر « حرب العاشر من رمضان »، على أساس ان النصر حدث بسبب بركة شهر رمضان وليس بسبب حُسن الاستعداد والتخطيط !
…
و« يوم الغفران » هو في الواقع يوم صوم، ولكن أضيف على ذلك أنه يوم عيد! فهو أهم الأيام المقدَّسة عند اليهود على الإطلاق ويقع في العاشر من (تشري) حسب التقويم اليهودي (فهو، إذاً، اليوم الأخير من أيام التكفير أو التوبة العشرة التي تبدأ بعيد رأس السنة “روش شانا” وتنتهي بيوم الغفران). ولأنه يُعتبَر أقدس أيام السنة، فإنه لذلك يُطلَق عليه «سبت الأسبات»، وهو اليوم الذي يُطهِّر فيه اليهودي نفسه من كل ذنب.
وبحسب التراث الحاخامي، فإن يوم الغفران هو اليوم الذي نزل فيه موسى من سيناء، للمرة الثانية، ومعه لوحا الشريعة، حيث أعلن أن الرب غفر لهم خطيئتهم في عبادة العجل الذهبي. وعيد يوم الغفران هو العيد الذي يطلب فيه الشعب ككل الغفران من الإله.
…
وبعد طعام الإفطار ذهبنا إلى بهو الفندق لأخذ فاتورة الحساب وإرجاع مفاتيح الغرفتين لموظف الاستقبال. وأثناء وجودنا في بهو الفندق، لاحظنا وجود عدد من اليهود الأمريكان المتشددين بملابسهم الدينية ويبدو عليهم انهم يبحثون عن شيء ما. وبعد فترة فهمنا انهم يريدون ان يقوموا بصلاة الصباح، وان هذه الصلاة لا تصلح الا اذا كان عدد المصلين عددا فرديا، وهم كانوا حوالي ثمانية ويريدون شخصا إضافية لاستكمال العدد الفردي إلى تسعة لكي يبدأوا صلاتهم. وأخذ احدهم يصيح لكي ينادوا على أي شخص من المطبخ يكون فاضي، وفجأة بدأوا النظر إلينا وتوسموا أنه ممكن أن يجدوا بيننا ولو شخصا واحداً لكي يكمل العدد الفردي. وكان أكثرنا تدينا هو المهندس علي زاهر، فقلت له: يا باشمهندس علي، ينوبك ثواب في هؤلاء الناس كمّل لهم العدد الفردي وسوف تنال ثواب صلاة الجماعة من جهة ومن جهة أخرى ربما يدعون لك في صلاتهم! وفوجئنا بأن المهندس علي زاهر قد صدق كلامي، وأخذ يختبئ وراء المهندس محمد بدر أطولنا! وكدنا ان نسقط على الأرض من كثرة الضحك على هذا الموقف بمجرد مغادرة الفندق.
…
وبمناسبة صلاة العدد الفردي، حكى لنا ذات مرة سائق تاكسي فلسطيني قصة طريفة وهي أنه ذات يوم كان يقود سيارته بالقرب من مستوطنة إسرائيلية يقطنها مجموعة من اليهود الأورثوذكس المتشددون. وفوجئ بعدد منهم يوقفون سيارته ويخطفونه، وقد قرأ الشهادة على روحه سراً اعتقاداً منه بأنهم سوف يقتلونه! ولكنه فوجيء بهم يطلبون منه ان يصلي معهم لكي يكملوا العدد الفردي! وبالطبع صلى معهم بكل سعادة وهو يتنفس الصعداء!
…
ورجعنا الى فندق فلسطين الجميل بعد قضاء تلك الليلة في اشكلون. وعندما لاحظنا جمال ونظافة ورقي تلك المدينة الساحلية اشكلون، اعتبرناها محطتنا الترفيهية من عناء العمل والحياة في غزة، وخاصة بعد ان شاهدنا شاطئها، وما يسير على هذا الشاطيء! وكنا من وقت لآخر نذهب لتناول طعام العشاء على الشاطيء، ولم نعاود أبدا الذهاب لفندق الملك شاؤول!
“ذكرياتي في فلسطين وإسرائيل”: الحلقة الحادية عشر ، زيارة مخطط الشاطئ في غزة