طلب مني بعض الأصدقاء الفلسطينيين زيارة « مخيم الشاطئ » في غزة لكي أتعرف على مأساة اللاجئين الفلسطينيين داخل المخيمات. وفي البداية ترددت لان زيارة مخيمات اللاجئين لم تكن ضمن مسؤولياتي كمدير لمشروع إسكان جباليا، ولكن في النهاية اقنعني صديقي بالذهاب وخاصة ان مخيم الشاطئ لا يبعد سوى ٣ كيلومتر من موقع المشروع في جباليا.
وبالفعل، ذهبنا لمخيم الشاطئ بعد ظهر أحد الأيام. ومن بعيد، لا يبدو مختلفا كثيرا عن غيره من الأحياء المكتظة بالسكان في غزة. وكان في مخيلتي عندما كنت اسمع عن مخيمات اللاجئين أني سوف أرى خياما متراصة ومكدسة! فلما وصلنا لمخيم الشاطئ لم الحظ وجود أي خيام، ولكني وجدت تشكيلة عجيبة من أكواخ وعِشش وبعض المباني التي تم بناؤها خلال ما يقرب من نصف قرن من الزمان بطريقة عشوائية وبدون أي تخطيط هندسي مسبق. وشاهدت مناظر كئيبة وغير آدمية من مياه صرف غير صحية تجري في مجاري مكشوفة ضيقة بجوار الأكواخ والبيوت. وشاهدت طرقا ملتوية ضيقة غير معبدة تصل تلك الأكواخ بعضها البعض. وشاهدت أسلاك الكهرباء تمتد فوق الأكواخ والبيوت مثل خيوط العنكبوت! وأهم مظهر من مظاهر القرن العشرين كان وجود أطباق استقبال إرسال التليفزيون فوق كل البيوت بلا استثناء. وما أحزنني بالفعل هو انني وجدت أطفالا يلعبون بين تلك الأكواخ التعيسة، وفي تلك الأزقة والحارات، حفاةً وبجوارهم تجري مياه الصرف غير الصحي، وأحزنني اكثر انهم كانوا سعداء لانهم لا يعرفون أفضل من ذلك، ويعتقدون ان تلك الحياة هي الحياة الإنسانية الطبيعية! وكانت تلك الزيارة بالنسبة لي زيارة كئيبة، لذلك حرصت على أن أنهيها بسرعة.
ورجعت إلى فندق فلسطين الجميل والمطل على البحر المتوسط، واستمتعت بأخذ حمام ساخن في غرفتي. وفجأة وانا استمتع بمياه الدوش الساخنة فوق رأسي فكرت في أطفال مخيم الشاطئ، وأخذت أتساءل: كيف حدث هذا؟ ولماذا سمح العالم ان يستمر هؤلاء الأطفال والبشر في الحياة بتلك الكآبة لنصف قرن (ولاكثر من سبعين عاما وقت كتابة تلك المذكرات)؟ وهل يمكن لوم هؤلاء الأطفال عندما يصبحوا مراهقين وشبابا ان اتّجهوا الى التطرّف والارهاب والعنف؟ ولم لا يتجهون للعنف والإرهاب وقد تم تشريد آبائهم وأجدادهم من ديارهم وأراضيهم نتيجة الحرب بين اليهود والعرب، تلك الحرب التي لم يكن لهم فيها ناقة ولا جمل؟ بل كانوا ضحية ضعف وجهل وقصر نظر القادة الفلسطينين والعرب، وعنف وتخطيط ولا إنسانية القادة الإسرائيليين! وأخذت أبحث عن أصل وحجم مشكلة اللاجئين، ولماذا هاجر وشرد اكثر من نصف الشعب الفلسطيني من دياره وأرضه؟ ولماذا لم يعودوا الى ديارهم بعد مرور اكثر من سبعين عاما على تهجيرهم؟ ومشكلة اللاجئين الفلسطينيين هي أضخم وأطول مشكلة لاجئين في العصر الحديث. فقد جرت العادة ان يهجر المدنيون مواقع الحروب خلال وقوع الحرب، ولكن بمجرد إنتهاء الحرب يعود المهجرين الى ديارهم وأراضيهم، الا في حالة اللاجئين الفلسطينيين فقد مرت أربعة أجيال ولا زالت المشكلة قائمة!
…
وبدأت أقرأ كثيرا عن أصل المشكلة أثناء كتابة تلك المذكرات لمعرفة حجمها وأسبابها وطرق علاجها. وحاولت قدر إمكاني الوصول الى الحقائق بطرق مختلفة، لان كل طرف في النزاع يحكي لك قصة مختلفة عن الطرف الاخر! فعلى سبيل المثال، يقول الإسرائيليون أن الفلسطينيين قد خرجوا من ديارهم باختيارهم لان قادة الجيوش العربية المشتركة في حرب ١٩٤٨ نصحوهم بأن يتركوا ديارهم حتى يستطيعوا هزيمة العصابات الصهيونية، والمسألة لن تتعدى أسابيع وبعدها يرجعون للديار, بينما الجانب الفلسطيني يقول بأنهم قد طردوا قسرا من ديارهم بواسطة العصابات الصهيونية.
وبعد قراءة مستفيضة للموضوع توصلت للاتي:
أولا: منذ مؤتمر بازل في سويسرا عام ١٨٩٨، هناك خطة واضحة لإنشاء دولة يهودية على ارض فلسطين. وما كان وعد بلفور عام ١٩١٧ الا إقراراً بواقع وخطة بدأ تنفيذها بالفعل وكان من نتيجة هذا بدء اليهود في الهجرة الى فلسطين اعتباراً من نهاية القرن التاسع عشر تحت اعين الدولة العثمانية وبدأوا في تكوين ميليشيات (مثل الهاجاناه والارجون وشتيرن وغيرها) التي أصبحت فيما بعد نواة الجيش الإسرائيلي. ولم يكتفِ اليهود بذلك، بل بدأوا بتكوين أسس الدولة القادمة. ولذلك، عندما أنهت بريطانيا انتدابها على فلسطين يوم ١٥ مايو ١٩٤٨، تم اعلان قيام دولة إسرائيل في نفس اليوم وكانت هناك وزارة ورئيس وزراء، هو دافيد بن جوريون، في نفس اليوم، وأصبحت دولة لها جيش وحكومة وكيان! وهذا لم يحدث بين يوم وليلة، ولكن حدث بعد تخطيط طويل الأجل أكثر من نصف قرن. اما على الجانب الفلسطيني، فلم يحدث أي شيء من هذا! لم يتم انشاء قوة عسكرية او ميليشيات عسكرية تحمي السكان العرب، ولم يتم انشاء كوادر فلسطينية كنواة لدولة مركزية قوية، واكتفوا بمشايخ وعُمُد القرى بدون أي تخطيط مسبق لإنشاء دولة فلسطين. لذلك عندما أُعلن عن انتهاء الانتداب البريطاني، وجد الفلسطينيون أنفسهم عراة بدون غطاء عسكري او سياسي، بينما اليهود وجدوا لهم في نفس اليوم جيش ودولة! لذلك انزعج بسطاء الفلسطينيون وقرروا الهجرة الى الدول العربية المجاورة لحين انتهاء الحرب.
ثانيا: شعر اليهود منذ البداية أن ظهورهم للحائط ولا بديل لهم الا النصر او الفناء على أيدي العرب، لذلك تمسكوا بالأرض وقاتلوا بشراسة لانه لا يوجد أي مكان حولهم يسمح باستقبال لاجئين يهود. أما الفلسطينيون، فكانوا يؤمنون تماما بأن هذه أرضهم وبالرغم من ذلك فلديهم البديل وهي البلاد العربية المجاورة. فقرروا الذهاب لاخوانهم العرب الذين أقنعوهم من خلال الأناشيد والدعاية الحماسية بأن اليهود جبناء وسوف يفرون فور دخول الجيوش العربية، ولم تكن ظهورهم للحائط مثل جيرانهم اليهود.
ثالثا: حدثت موجتان رئيسيتان من هجرة الفلسطينيين، الأولى قبل حرب ١٩٤٨ بقليل وأثنائها وخلال هذه الموجة حدث ذعر شديد لدى الفلسطينيين وخاصة بعد سماعهم أنباء المذابح التي ارتكبتها الميليشيات اليهودية في دير ياسين واللد والرملة وغيرها، وقد بالغ اليهود عمدا في الإعلان والاعتراف ببشاعة تلك المجازر وتبعهم بسذاجة شديدة أجهزة الاعلام العربية، مما أدى الى اخافة الآلاف من البسطاء والذين لم يصدقوا أبدا بأن تلك العصابات اليهودية سوف تستطيع هزيمة قوات من سبعة جيوش عربية، لذلك خرجوا من ديارهم حماية لأنفسهم وأطفالهم ونسائهم وهم على ثقة تامة بأنهم سوف يعودوا الى ديارهم في خلال أسابيع
رابعا: حدثت الموجة الثانية من الهجرة بعد هزيمة القوات العربية بواسطة الجيش الإسرائيلي، وبعدها صدرت تعليمات شفهية من رئيس الوزراء دافيد بن جوريون شخصيا الى قادة جيشه في المناطق العربية التي استولى عليها الجيش الإسرائيلي بأن يتم تطهير تلك المناطق من العرب قدر الإمكان لإنشاء دولة يهودية خالصة، وخلال تلك الموجة الثانية تم تهجير الفلسطينيين قسراً.
خامسا: وقد رفضت عودة اللاجئين كل الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة سواء من حزب العمل او حزب الليكود. وحتى بعد ان استقر الامر لدولة إسرائيل واعترفت بها الدول الكبرى في هذا الوقت، وحتى بعد ان صدر قرار الأمم المتحدة رقم ١٩٤ بتاريخ ١١ ديسمبر عام ١٩٤٨ والذي ينص على: “وجوب السماح بالعودة، في أقرب وقت ممكن للاجئين الراغبين في العودة إلى ديارهم والعيش بسلام مع جيرانهم، ووجوب دفع تعويضات عن ممتلكات الذين يقررون عدم العودة إلى ديارهم وكذلك عن كل فقدان أو خسارة أو ضرر للممتلكات بحيث يعود الشيء إلى أصله وفقاً لمبادئ القانون الدولي والعدالة، بحيث يعوّض عن ذلك الفقدان أو الخسارة أو الضرر من قبل الحكومات أو السلطات المسؤولة”. وذلك لان الهدف الأساسي كان هو انشاء الدولة اليهودية، وعودة اللاجئين سوف تقوض كيان يهودية الدولة.
سادسا: أستمر العرب في رفضهم لأي حل سياسي بالرغم من هزيمة الجيش المصري في سيناء عام ١٩٥٦ والهزيمة النكراء للجيوش العربية عام ١٩٦٧ واحتلال باقي فلسطين مما أدى الى تضاؤل أي أمل في أي حل يسمح بعودة اللاجئين. وسوف تظل مشكلة عودة اللاجئين هي الصخرة التي تتحطم عليها أي أمل للسلام وأي أمل لحل الدولتين.
سابعا: ومما زاد الامر تعقيدا بالنسبة للاجئين في السنوات الأخيرة هو إصرار بنجامين نيتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، كشرط لقيام دولة فلسطينية مستقلة، ان يعترف الفلسطينيون بـ « يهودية دولة إسرائيل ». وللأسف، أيدته في هذا الإدارات الامريكية المتعاقبة (أوباما، ترامب، بايدن)، ومعنى أعتراف الفلسطينيون بيهودية الدولة هو تنازلهم عن حق العودة للاجئين.
…
وحسب موقع الأونروا (وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين):
عدد اللاجئين الفلسطينيين، المسجلين لدى الأونروا، حسب البلد أو الإقليم في يناير 2015 على النحو التالي، يبلغ اكثر من خمسة ملايين لاجيء يتم توزيعهم كالتالي:
الأردن 2,117,361
قطاع غزة 1,276,929
الضفة الغربية 774,167
سوريا 528,616
لبنان 452,669
المجموع 5,149,742
وتوجد المخيمات الآتية داخل فلسطين وخارجها:
الضفة الغربية 24 مخيما، قطاع غزة 8 مخيمات
الأردن 10 مخيمات، لبنان 12 مخيما، سوريا 11 مخيما
وحسب احصائيات الأونروا فإن عدد اللاجئين الفلسطينيين قد تضاعف تسع مرات منذ عام ١٩٤٨ وحتى اليوم.
…
وفي النهاية لقد أقتنعت تماما للأسف بأن هؤلاء اللاجئين هم ضحايا الحقيقة الانسانية التاريخية بأن “البقاء للأقوى”. وضحايا أيضا للصراع بين التقدم والتخلف، بين قوى عالمية تخطط لمدة نصف قرن وتحشد كل عناصر قوتها لكي تنفذ ذلك المخطط، وبين قوى إقليمية ضعيفة ليس لديها خطة وليس لديها فعل وحتى رد فعلها لا يخرج عن بعض الخطب الحماسية والأناشيد الرنانة وخطتها الوحيدة هي الاعتماد على « بركة دعاء الوالدين ».