،(الصورة: نساء غزاويات يستصلحن أرضاً لزراعتها)
عندما كنا أولادا صغارا نلعب في حواري الأحياء الشعبية بالقاهرة، كان من أكبر الفضائح أن يعرف أحد الأولاد أسم أمي، لأنه كان من شأنه أن يحولني الى أضحوكة بين أقراني! وبدلا من أن ينادوني بإسمى “سامي »، فسوف ينادونني « يا أبن فلانة!! ».
وأذكر أن حظى العاثر قد مكّن أحد الأولاد من معرفة أسم أمي عن طريق والدته، وبدأ حملة شريرة لابتزازي. فكان يقتسم معي سندويتش المدرسة، وأحيانا كان يقتسم معي مصروفي اليومي المتواضع. وظل على هذا الحال حوالى سنة كاملة، حتى استجاب الله لدعائي وتم نقل والده للعمل خارج القاهرة، وقد سافر مع أسرته ومعه السر المصون ألا وهو “أسم أمي“،! وأنا حتى الآن لا أجرؤ على ذكر أسم أمي (رحمها الله) في هذه المقالة خشية أن تغضب عليّ في الآخرة.
…
وأذكر أيضا النكتة التي تقول أن صبياً في سن المراهقة عرف أقرانه في القرية أسم أمه (حفيظة)، فظلوا ينادونه طول الوقت قائلين « يا إبن حفيظة » حتى أصبح أضحوكة بينهم، وقرر انتهاز أول فرصة وهاجر من القرية إلى بلاد بعيدة لا يعرفون فيها أسم أمه (حفيظة). وخلال حوالي 30 سنة لم يقم أبدا بزيارة قريته، حتى شده الحنين مرة أخرى لزيارة القرية. وذهب بالفعل وشاهد أن معالم القرية قد تغيرت عليه، ولم يعرفه أحد وشعر بنفسه غريبا. وهذا لم يزعجه كثيرا، ولكن ما أزعجه أنه لم يكن يتعرف حتى على أماكن المقابر لأنه يريد زيارة المقابر وقراءة الفاتحة لأبيه وأمه. فتوقف في الطريق لكي يسأل رجلا عجوزا لكي يدلّه عن مكان مقابر القرية، فنظر إليه الرجل كثيرا متمعناً وجهه ثم سأله: « مش إنت ابن حفيظة »!!
…
وأثناء عملي في « غزة » لاحظت أن كل الناس لا يذكرون أبدا أسماء نسائهم أو بناتهم وينادون بعضهم بـ« أبو فلان » (ولا بد أن يكون هذا « الفلان » ذكرا)، ولا ينادي أي أحد باسمه الأول أو باسم عائلته. وهذا الموضوع كان يزعجني كثيرا وخاصة عندما يسألني أحد قائلا: “إنت قابلت (أبو محمد)”؟ فأقول: “(أبو محمد) مين يابني، غزة فيها على الأقل ميت ألف (أبو محمد) “؟ فأكاد أجن عندما يجيبني: “(أبو محمد) يا أخي… اللي أخوه (أبو عبد الله)”!! فأصاب باليأس تماما وأقول كذباً: “ايوه يا سيدي قابلته“!!
…
واكتشفت فيما بعد أن الرجل يعتبر فخرا ذكوريا كبيرا أن له أبناً وينادونه « أبو فلان ».
والمجتمعات الذكورية تعتبر الفتاة والمرأة « عورة » كما أنها تشكل عبئا كبيرا. وفضيحة أن يكون كل خلفتك بنات. وأذكر صديقا لبنانيا لديه ثلاث بنات مثل الورود، وعندما يسأله أحد عن أبنائه كان يجاوب: “أنا عندي بنتين وبنت” ولا يجرؤ أن يقول :”أنا عندي ثلاث بنات“! وأذكر أيضا عندما رزقنا الله بالبنت الثانية كنت سعيدا جدا بها، وجاءت لزيارتنا سيدة لبنانية كبيرة في السن بعد ولادة ابنتي الثانية مباشرة. ولاحظت أنها لم تكن تحمل معها هدية أو شيئاً من هذا القبيل على أساس أنها حضرت للتهنئة، ولكني فوجئت بأنها قد حضرت لكي تواسينا على حظنا التعيس وقالت: « ولا يهمك أن شاء الله المولود اللي جاي يكون صبي“! فقلت لها: « أنا مبسوط بالبنت »، فكان ردها مفاجئا عندما قالت: « أنا عارفة إنك بتقول هيك منشان تصبّر نفسك على ها البلوة »!!
…
وأثناء عملي في مشروع غزة تعرفت على مقاول أسمه (أبو حمدي)، ولا أذكر أسمه بالكامل رغم أني وقّعت معه عقدا ليكون أول مقاول يعمل معنا بالمشروع » وكان أبو حمدي شخصية نادرة وتعرفت عليه من خلال صاحب فندق فلسطين الذي كنت أقيم فيه. وما شدني إلى أبو حمدي أنه كان شخصا دقيق المواعيد بشكل غير معهود في عالمنا العربي الجميل، وخاصة في قطاع غزة. فقلت لنفسي هذا هو المقاول الذي نريده، من يحافظ على المواعيد بهذه الدقة. ولكن اكتشفت فيما بعد أني أخذت أكبر مقلب من أبو حمدي! وكان أبو حمدي أيضا شخصية، من الخارج منظر وله هيبة وكاريزما، وكان يشبه إلى حد كبير (آريل شارون) رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق،.وكنت كثيرا ما أغيظه قائلا « بالذمة يا أبو حمدي، أنت متأكد أن شارون مش أخوك »؟ وشارون وقتها كان على قيد الحياة، أبو حمدي كان له نفس الشكل والملامح حتى الكرش أمامه يتأرجح كلما مشى أمامك! وبعد بدء العمل لم يكن أبو حمدي يهتم إلا بالحصول على المال بأي شكل سواء قام بأداء عمله أم لا.
وجاءني “أبو حمدي” يوما يسألني: ما هو أسم أبوك؟“، فقلت له: “أسمه أحمد“، فقال لي: “من هنا ورايح سوف نناديك يا أبو “أحمد“، فقلت له: لماذا ؟ فقال: “أنا أعرف أنه ليس لديك أولاد، لذلك جرت العادة بين الفلسطينيين وأهل بلاد الشام أن ينادون الشخص الذى لم ينجب أولاد بكنية أبيه“. فاعترضت قائلا: “أنا أفضل أن تناديني بإسمي المجرد “سامي“. فقال لى: “مايصحّش يا باشمهندس، لا بد أن نناديك يا أبو أحمد“. فقلت له: “ان كان ولا بد أن تناديني با أبو « حاجة“، فأنا أفضل أن تناديني باسم إبنتي الكبرى “سارة“. فتغير وجه” أبو حمدي” فجأة وقال: يعني « يا باشمهندس » عاوزني أناديك « يا أبو سارة »؟ فقلت له: « أيوه ولى الفخر كمان ». (رغم أنى لم أتخلص من عقدة أسم أمي بعد!!). فقال: « يا باشمهندس ما يصحّش، أحنا عمرنا ما ننادي أحد باسم بنته، البنات دول حرمة »! فقلت له: « يا سيدي أنا موافق، أنت ما لَك، قل لي يا أبو سارة ». فقال لى: « أنت حر أنا سأناديك يا أبو سارة فى وسط المشروع وفى وسط العمال ». فقلت له: « ولا يهمك ». وطبعا « أبو حمدي » ما كذّبش خبر، وبدأ على الفور بمناداتي: « يا أبو سارة » فى وسط موقع العمل، وما أن نادى علي بصوت عال « أبو سارة » حتى توقف العمل فى الموقع وبدأ الكل ينظر باستنكار تجاه المنادي والمنادى عليه، فشخط فيهم ” »أبو حمدي » قائلا: « كل واحد يرجع شغله، الباشمهندس مبسوط من لقب « أبو سارة »!!
وأنا أعرف أيضا أن فى بعض بلاد الخليج عندما يريد الرجل أن يتكلم عن زوجته يبدأ الحديث قائلا: « الله يعزّك » الأولاد فى البيت…. كذا…..كذا “، تماما مثلما يتكلم عن حذائه قائلا: « الله يعزك عطني المداس » !! وفي بلاد الشام عندما يتكلم الرجل عن زوجته يقول: “المرة » بدون ألف الهمزة وبفتح الميم والراء، أما فى مصر فقد حدث تطور كبير فبعد أن كان يطلق على الزوجة لقب « الجماعة »/ أخذت لقب « المدام »، بدون ذكر اسمها صراحةً.
…
وخلال قراءتي لبعض كتب السيرة، فأنني أقرأ كثيرا عن أسماء نساء العرب والصحابة وحتى نساء الرسول وبناته بدون أن يكون هناك أي غضاضة في ذكر أسماء البنات والنساء.
أما كل هذه المظاهر المثيرة للضحك والرثاء، إنما هي مظاهر جاهلية وتُعتبر بمثابة وأد نفسي للبنات، لأن الرجال العرب لا يطيقون أن يكون لبناتهم أو لزوجاتهم وجود خارج البيت. وقد كنت مرة أصلي الجمعة في أحد مساجد الوهابيين بمدينة الرياض، وكانت خطبة الجمعة كلها مركزة على أن: المرأة لا تخرج من باب البيت الا مرتين: مرة من بيت أبوها الى بيت زوجها والأخرى من بيت زوجها الى القبر!! ومرة قال لي أحد المتمسحين باسم الدين: « أن المرأة ما هي الا وعاء يفرغ الرجل فيه شهوته « !! وطبعا قد تقززت من التعبير، وكنت أعرف أسرته، فأجبته قائلا: « أيه رأيك لو أنقل الرأي ده للسيدة والدتك وللآنسة أختك؟ »، فصمت ولم ينبس بشفة.
ورغم حدوث تطور كبير في السنوات الأخيرة للنظرة الى المرأة العربية، الا أن جحافل الجاهلية ما زالت ترغب في أن تعود المرأة الى البيت كخادمة ومربية ووعاء للشهوة. كما أن بعض البلاد العربية لا تسمح بسفر الزوجة بدون موافقة خطية من زوجها، وكأنها جارية قد أشتراها من أبوها.
حتى « مهر المرأة » ما هو الا رمز للجاهلية والعبودية والجواري. وكلما بولغ في المهر فان هذا يؤكد أن المرأة جارية تباع وتشترى، حتى أنها اذا أرادت أن تخلع من زوجها فلا بد لها أن تشتري حريتها برد المهر والهدايا لزوجها.
وما زلنا نرى التفرقة البغيضة بين تربية الولد وتربية البنت. فالولد مصرح له بأن يفعل ما يشاء، ولو عرف والده أن له علاقات نسائية حتى لو كانت علاقات مع بائعات الهوى، فإنه يبتسم موبّخا:” ما يصحش كده ياولد، أنتظر حتى الزواج “. بينما يقول لأصحابه في المقهى بفخر: ” »الولد طالع عفريت وخلبوص زي أبوه، داير على حل شعره ». أما اذا عرف أن أبنته قد تعرفت الى شاب في الدراسة، فإنها سوف تتعرض لأقصى العقوبات الجسدية والنفسية، ابتداء بتهديدها بحرمانها من استكمال تعليمها، وانتهاءا بالقتل كما يحدث في بعض الأماكن البدوية والقرى النائية.
…
وسواء أردنا أو لم نرد، فالمرأة أكثر من نصف المجتمع، وهذا ليس كلاما سياسيا وإنما إحصائيات. ففي معظم دول العالم يبلغ تعداد النساء حوالى %51 من السكان. فتجاهلُ نصف المجتمع أو معاملته بمعايير مزدوجة لا يجلب الا الفشل على تلك المجتمعات.
المرأة هي أمك وأختك وابنتك وزوجتك وحبيبتك، والمرأة هي الحياة لأنها تحمل في داخلها كل حياة لطفل وليد، وهى العذوبة والرقة والحب والشاعرية، معظم الشعر الذى كتب عبر التاريخ كُتبَ في المرأة.
وبدون الحرية الكاملة للمرأة فلا يوجد هناك أمل حقيقي للتقدم أو القضاء على الفقر والجهل والمرض والبطالة. فالمجتمع الذى لا يعطي الحرية الحقيقية للمرأة والمساواة الكاملة بالرجل، سيظل مجتمعا أعرج يمشي على ساق واحدة.
نريد للمرأة حرية حقيقية بدون قيود، الا قيود القانون مثلها مثل الرجل، لا نريد حرية تليفزيونية شكلية. يجب أن نحارب الأفكار الجاهلية التي ما زالت تبيح « وأد البنات »، وأدا نفسيا، وأحيانا جسديا.
المرأة الحرة سوف تعلّم أولادها الحرية. والمرأة الجارية لا تستطيع لأن فاقد الشئ لا يعطيه. ان أعتبار المرأة « عورة »، اسمها « عورة »، صوتها « عورة »، جسدها « عورة »، لا يتأتى الا من مجتمع الذكور المهوسين بالجنس، ومجتمع رجال لا يمارس الجنس الا فى خيالهم ولا يعرفون من الحب الا القليل. حتى بعد الزواج يمارس معظم رجال الهوس الجنسي، الجنس بدون حب حقيقي.
واذا أضفنا الى موضوع « عورة » أنهن « ناقصات عقل ودين »، فان القضاء على المرأة قد تم بمقتضى النصوص والتفاسير العتيقة.
وأحمد الله أنى قد أنجبت البنات، وبأنني قد نجيتُ بهن في سفينة نوح في « بلاد الفرنجة »، حتى يبعدن عن مجتمع الذكور المهووسين جنسيا في بلادنا الجميلة!!
“ذكرياتي في فلسطين وإسرائيل”: الحلقة التاسعة عشرة، صلاة الظهر في معسكر للجيش الإسرائيلي