الصديقتان الكويتيتان تواجهان حقيقة المرض في “شمس منتصف الليل”
يستقبل هذا النص قارئه بلوحة سردية صاخبة بالحياة رسمتها الكاتبة الكويتية – السورية دلع المفتي بعناية وبلغة معبرة عن هذه الحيوية، لتنسج منها عتبة نصها “شمس منتصف الليل“، ( دار كلمات – الكويت). يستدرج النص قارئه قبل أن يدرك أن هذه اللوحة التي تتكثف فيها طاقة الحياة والضحك والألوان والجمال، هي بشكل ما ستار ملون لواقع آخر. ومع تقدم النص تتكون ملامح البطل الرئيس للنص كاشفاً عن ملامحه من خلف الستار.
سرعان ما يتبين القارئ أن المعاناة مع مرض صامت وغادر ستغدو المسرح الرئيس لأحداث الرواية. لكنه على الرغم من ذلك لن يفقد كثيراً من أجواء الحيوية وطاقة الحياة بفضل طبيعة شخصية إحدى الصديقتين. ولعل هذه الطاقة الحيوية التي تتمتع بها شمس التي تتقاسم مع صديقتها قدرية معاناة المرض والعلاج الكيماوي، هي الطاقة التي تعمل سردياً على خلق ما يطرحه النص من أسئلة وجودية وقيمية عديدة. ثم من خلال مجموعة من تأملات البطلتين في معاني مشاعر مثل الوحدة أو طبيعة الأمومة، أو تغيرات القيم لدى الأجيال الجديدة، والحب، أو حتى معنى الموت… وهي كلها معاً تمثل نقاشاً متعدد المستويات حول جوهر معنى الحياة.
حياة ملتبسة
قدمت المفتي نصها بلغة رشيقة، نقلت بها مشاعر متناقضة لبطلتي العمل، شمس وقدرية، خصوصاً الأولى التي تتسم بروح مرحة محبة للحياة بعيدة من التكلف، التي تسببت في منح الجزء الأول من الرواية طابعاً يتسم بخفة الظل والمرح والطاقة الإيجابية، قبل أن يتعرف القارئ تدريجاً إلى ما يخفيه هذا المرح وهذه الروح الاستثنائية من خلفيات أخرى تمثل تفاصيل حياة شمس، التي تأتي في ظلالها أيضاً تفاصيل حياة قدرية.
وعلى الرغم من براعة المفتي في الوصف الدقيق لتفاصيل الأماكن كافة التي تتردد عليها شمس وقدرية، كالطبيعة أو الأماكن أو البيوت، فهي أيضاً استخدمت الحوار في مساحات كبيرة في النص، وجعلت منه أداة لرسم الملامح النفسية والشخصية للبطلتين اللتين تمثلان نموذجين متناقضين تماماً. فالانفتاح هنا نقيضه التحفظ هناك، وحب الحياة بشكل هيستيري هنا يقابله الاستسلام والاستكانة للقدر هناك. والضحك والجنون المستمر هنا تقابلها الروية والتفكير في كل التفاصيل، والأسى على الخواء وعلى ما تهديه إليهما الحياة هناك. وبينما تبدأ فصول الكتاب الأولى في روما، ومنها إلى توسكاني في إيطاليا، فهما ليستا سوى مدينتين عابرتين تصادف وجود البطلتين فيهما خلال رحلة اعتبرتها كل منهما هدنة من المرض، ورغبة في اقتناص متع الحياة الضائعة. بل منحة من الصداقة والمحبة يمكن بها أن تجتازا المحن.
لكن القارئ لن يعرف المدينة التي تعيش فيها البطلتان حياتهما الواقعية، ولا المرجعيات أو الخلفيات الثقافية لكل منهما بشكل يوضح هوية البلد أو المكان. كأن الكاتبة أرادات أن تطفو بأسئلتها الوجودية والثقافية لتحلق عالياً، بعيداً من مستوى الجغرافيا الإقليمية الضيقة، لتمنح أسئلتها طابعاً إنسانياً وكونياً، لأنها أسئلة تخص الإنسان في كل مكان في الحقيقة. أما إيطاليا فهي مساحة اختبار لأسئلة الإنسانية لجوهر الاختلافات الثقافية بين الشعوب، للتعاطف الإنساني غير المشروط، خصوصاً في حال الإيمان بالاختلاف وحقوقه لدى الكائنات كافة.
مرض وإحباطات
تبدو شخصية شمس جذابة على الرغم من كل ما تمر به، ليس فقط من معاناة مع المرض، بل ومن إحباطات الحياة. ومع ذلك تكاد تشعر بما تمتلكه من قدرة هائلة على التصالح مع الحياة ومع نفسها ، بل ومع المرض أيضاً. تبدو دائماً باحثة أيضاً عن الصدق مع الذات ومع الحياة. لا تدعي شمس شيئاً، ولا تبحث عن مبررات لإخفاقات الحياة أو سلبياتها. اختارت زوجاً بمواصفات محددة في مرحلة من عمرها، ثم تبينت كيف اختلف مسار العلاقة عما كانت تتوقعه، لكنها لا تدين نفسها ولا تبدو ميالة لإدانة الزوج. إنها لا تميل للإدانة. ترى أن اجترار الإحساس بالذنب هو الذي يقتل الإنسان أكثر من مرة، كما لو أنها تقول إن المرض القاتل أحياناً يكون مبرراً بديهياً للموت، بينما قتل الذات معنوياً هو موت مؤقت أو مبكر.
ولهذا مثلا يُطرح سؤال الموت بأكثر من طريقة، وبينها فكرة الموت الرحيم كخيار مطروح لدى ثقافات بعينها ووفق شروط خاصة. يمكن القول إن شمس تمتلك فلسفة خاصة للحياة، ولكنها لا تتحدث عنها بقدر ما تود أن تعيشها. أن يكون سلوكها وصدقها مع ذاتها وتواصلها مع البشرية من حولها أموراً طبيعية، بلا حواجز طبقية أو ثقافية. كما لو أنها تقدم بسلوكها الفطري نموذجاً لقناعتها الثقافية والإنسانية في الحياة.
أسئلة وجودية
لهذا فهي تفجر أسئلة وجودية عدة لا تنقصها جرأة شخصية مثل التي لدى شمس. ومن الأسئلة حول ما بعد الموت إلى كيفية تقبل الآخر مهما كان مختلفاً، ومن المعنى الحقيقي للموت، بل وفرض تصورات عما يمكن وصفه بجماليات الموت، بافتراض أن الإنسان في جسده الحي يتعرض للموت مرات عدة، ولهذا يتغير الشخص بين مراحل مختلفة من حياته!
قدرية أو قمر كما أسمتها شمس، تمتلك كثيراً من خفة الظل أيضاً، لكنها تعيش بجرح تشعر أنها لن تبرأ منه، وتعتقد أنه جرح يفوق آلام المرض، لكنها ترى في شمس، النموذج الذي امتلك ما كان مفقوداً لديها. ومع ذلك فقد أتاحت لها أن ترى كيف يغدو سلوك الأبناء أحياناً يماثل العقم!
ثمة رهافة تسري في النص وتتسبب في خلق حالات شعورية متباينة بين الحزن والأسى والفرح والضحك، وهذا ما يجعل القارئ (على الأقل في حالتي) يفضل أن يمضي في قراءة النص حتى لا يفقد سيولة هذه المشاعر إذا توقف عن القراءة. على الرغم من أن الألم والكآبة وتفاصيل التعب السوداوية تكون أحياناً شديدة القتامة وتسبب ألماً حقيقياً، خصوصاً أن النص كثيراً ما يتلاعب بمشاعر تتراوح بين اليأس والأمل. لكنها في النهاية تعبير عن إتقان الكاتبة التعبير عن هذا كله.
نص إنساني مسبوك بلغة رشيقة وبليغة، يحمل روح الحياة في تناقضاتها وفي أسئلتها الوجودية التي تفجرها المحن، والتي تجعل الإنسان قادراً على رؤية الحياة والموت على قدر المساواة.