لا ينبغي أن يسارع أحد إلى شطب رئيس مجلس النواب اللبناني من المعادلة، لكنه يمثّل للكثير من اللبنانيين حالةً من الجمود القاتل.
سرت تكهّنات خلال الأيام الأخيرة حول أفول دور رئيس مجلس النواب اللبناني في الحياة السياسية اللبنانية. وقد وافق معلّق سياسي معروف وأحد المنتقدين الراسخين لبري على الفكرة القائلة إننا نشهد “نهاية ساعة نبيه بري بالمعنى السياسي الحقيقي في تاريخ لبنان”. من الأفضل دائمًا عدم الاستهانة ببري المحنّك، لكن يجوز القول إن آفاقه المستقبلية محدودة، وهو قد بلغ سنّ الخامسة والثمانين.
ينطوي سجلّ بري على خطوات متعثّرة عدة خلال العام الفائت، تظهر أن سلطته تتراجع. فقد أُعيد انتخابه رئيسًا لمجلس النواب بأغلبية هزيلة جدًّا، إذ لم ينَل أكثر من 65 صوتًا، بعد الانتخابات النيابية التي أُجريت العام الماضي. وفشل أيضًا في قيادة مجلس النواب لاختيار مرشّح توافقي لرئاسة الجمهورية منذ أن غادر ميشال عون منصبه في تشرين الأول/أكتوبر الفائت. وحين حاول بري فتح حوار حول الرئاسة، قوبِل اقتراحه بالرفض من جانب حزبَين مسيحيَّين أساسيَّين. والأسوأ أن سليمان فرنجية، وهو المرشّح الذي يدعمه بري، يلقى معارضة واسعة من جميع الأحزاب المسيحية الكبرى، ويبدو أن حظوظ انتخابه رئيسًا أصبحت متعثّرة حاليًا. كذلك، بري هو الذي حاول الأسبوع الماضي تأجيل تاريخ بدء العمل بالتوقيت الصيفي، في خطوةٍ سبّبت الفوضى وتراشق الاتهامات، وأرغمت بري ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي على التراجع عن هذا القرار بشكل مهين.
يُنظر إلى بري على نطاق واسع بأنه من بين السياسيين اللبنانيين الأكثر اعتمادًا على ممارسات مشبوهة. فمن بين الأماكن الأولى التي أحرقها متظاهرون شيعة غاضبون خلال مظاهرات تشرين الأول/أكتوبر 2019 منتجعٌ بحري في صور يُقال إن ملكيته تعود إلى زوجة بري. وعلى مدى الأيام الأخيرة، سرت شائعات مفادها أن مشروع توسعة المطار مرتبطٌ بشخصية مقرّبة من بري، لكن ما من دليل على صحة هذا الخبر. بموجب القانون، يجب تلزيم العقد لشركة من خلال إجراء مناقصة تنافسية، لكن هذه الخطوة لم تُتَّخَذ، ما أثار ردود فعل قوية من جانب منظمات المجتمع المدني. ولم يتم عرض المشروع على جان العلية، رئيس هيئة الشراء العام، ويُعدّ هذا التأخير بحدّ ذاته مُريبًا. ومن المشبوه أيضًا أن بري دعا العلية في 29 آذار/مارس للتباحث حول هذا الشأن. لكن في وجه الاستياء العارم الذي أثاره المشروع، عمد وزير الأشغال العامة والنقل في نهاية المطاف إلى إلغائه يوم 30 آذار/مارس.
ونظرًا إلى كَوْن سمعة بري ما هي عليه، فكل ما يفعله غالبًا ما يثير الشكوك. فهو يترأس مجلس النواب منذ العام 1992، ونجح مرةً تلو أخرى في إعادة اختراع نفسه وتعزيز موقعه داخل النظام اللبناني المتقلّب، خلال المرحلة الشديدة الاضطراب التي شهدها لبنان عَقِب اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري. وحتى عندما انتُخب عون رئيسًا واضطرّ بري إلى التعامل مع رجل يعتبره عدوّه السياسي، تمكّن رئيس المجلس تدريجيًا من تهميش رئيس الجمهورية وصهره جبران باسيل.
أما اليوم، فالسؤال الأساسي هو التالي: هل لا يزال في جعبة بري شيءٌ يمكن أن يقدّمه للبنانيين؟
بالنسبة إلى الكثير من اللبنانيين، لا يمثّل بري سوى امتدادٍ لمعاناتهم. ينظرون إليه، فيرَون أنه لا يعرض عليهم أي سبيلٍ للخروج من الكارثة التي تُغرق بلادهم، بل يرفض هذا الاحتمال إن كان سيضعفه، ويحاربه بشراسة. يشبه بري اليوم أحد قادة أوروبا الشرقية عشية انهيار الشيوعية – وهم قادةٌ تحجّروا خلال سنوات حكمهم، فباتوا عاجزين عن خوض غمار بدايات جديدة، فيما العالم من حولهم ما انفكّ يتغيّر وضاق ذرعًا بتعنّتهم. لشخصٍ بمثل ليونة بري السياسية، قد يكون هذا الانطباع عنه قاتلًا.
على خلاف بعض السياسيين الآخرين، مثل عون وشريك بري القديم، الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، ليست لدى رئيس المجلس أي خطط للتوريث السياسي. فلا أحد من أبنائه أو من دائرة المقرّبين منه سياسيًا يتوقّع أن يرث منصبه، وبالتالي ستنتهي سلطة بري معه. ومن غير الواضح أيضًا من سيتولّى قيادة حركة أمل من بعده، نظرًا إلى أن الولايات المتحدة فرضت في العام 2020 عقوبات على أحد أقرب الأشخاص إلى رئيس المجلس، الوزير السابق علي حسن خليل. يدرك بري أن اللايقين المحيط بوراثته يعني أن جميع الأوراق ستكون بين يدَي حزب الله الذي عمل بري، غير المرتاح لذلك، في ظل هيمنته منذ انسحاب الجيش السوري من لبنان في العام 2005.
إذا كان بري يسلك بالفعل مسارًا انحداريًا، فكيف سينعكس ذلك على لبنان؟ كان رئيس المجلس أحد أبرز مسبِّبي المأزق الذي يعيشه لبنان منذ بدء الأزمة المالية في العام 2019. وهو لا يزال يدافع عن الأشخاص الذين قاوموا بشدّة تطبيق الخطة الإصلاحية التي أعدّها صندوق النقد الدولي. يعتبر السياسيون اللبنانيون أن هذه الخطة تهدّد قاعدة سلطتهم والشبكات المالية وشبكات المحسوبية الخاصة بهم (التي تنهار بدورها، لسخرية القدر، نتيجة غياب الإصلاحات). لهذا السبب، دعم بري أحد المناوئين الآخرين لخطة الصندوق، حاكم مصرف لبنان رياض سلامة. وقد وصل بري إلى حدّ الإعلان ضمنيًا، من خلال وزير المالية الذي عيّنه، أن استبدال سلامة عند انقضاء ولايته في تموز/يوليو سيكون صعبًا.
لكن لا يخفى على أحد أن إبقاء سلامة في منصبه أمرٌ شبه مستحيل. ولا يُعزى سبب ذلك فحسب إلى أن لبنان ودولًا أوروبية عدّة تُجري تحقيقات بحقه في قضايا تبييض الأموال والاختلاس، بل أيضًا لأن إبقاءه في منصبه سيشكّل مؤشّرًا واضحًا على أن السلطات اللبنانية لا تنوي تطبيق إصلاحات صندوق النقد التي وافقت عليها قبل عام تقريبًا. قد تكون هذه هي بالفعل نية أفراد الطبقة السياسية-المالية الحاكمة، إلا أن السلطات اللبنانية لا تزال تحاول إيهام العالم بأنها جادّة في تلبية شروط صندوق النقد.
وحتى على الصعيد المحلّي، تُعدّ قدرة بري على ضمان تمديد ولاية سلامة محدودة.
ففي مقابلة أجراها نائب الأمين العام لحزب الله نعيم قاسم مع صحيفة الأخبار في شباط/فبراير، أكّد أن الحزب “قطعًا” ليس مع التمديد. والأكيد أن العونيين سيعارضون هذا الخيار أيضًا، فيما لا يبدو أن الكثير من الأطراف الأخرى مستعدة للاصطفاف خلف الحاكم. حتى إن سلامة نفسه أعلن، بعدما لمس تبدّل المواقف حوله، أنه سيغادر منصبه في الوقت المحدّد.
كذلك، يشير اختيار بري لفرنجية كمرشّح لرئاسة الجمهورية إلى معارضته التغيير الحقيقي، إذ لا يعتقد أحد أن فرنجية يمتلك المقوّمات التي من شأنها طمأنة المجتمع الدولي الذي يسعى بقوة لتطبيق الإصلاحات. وقد ألمح البعض إلى أن تبنّي حزب الله ترشيح فرنجية في مطلع آذار/مارس كان عبارة عن مبادرة من بري وافق عليها الحزب، أكثر من كونها محاولةً من الحزب لإحراز تقدّم في الملف الرئاسي من خلال مطالبة حلفائه بدعم مرشّحه ووعده بالأصوات اللازمة لانتخابه. ربما، لكن إذا كان ذلك صحيحًا، فهو يجعل من بري هدفًا، إذ سيبدو وكأنه يستأثر بالسلطة لاختيار رئيس ماروني ضدّ غالبية الرأي العام المسيحي الماروني.
ستتمثّل أولى مهامّ الرئيس المُقبل في تعيين بديل لسلامة. وسيكون هذا حاسمًا لمصداقية لبنان أمام المجتمع الدولي، وسيكشف إن كان الرئيس الجديد يعتزم حقًا إخراج البلاد من مستنقعها المالي والاقتصادي، بعد ثلاث سنوات لم تتّخذ فيها الطبقة السياسية أي خطوة لتطبيق برنامج إصلاحي. في الواقع، زارت بعثة من صندوق النقد الدولي بيروت الأسبوع الماضي وهذا ما قالته، وإن بلغة دبلوماسية أكثر.
ما الخيارات المتاحة أمام بري في هذه الحالة؟ هو يدرك تمامًا أن لا شيء يمكن أن يوقف انهيار الليرة اللبنانية، على وقع تراجع احتياطيات العملات الأجنبية في المصرف المركزي. وسيلحق ذلك الضرر على نحو غير متكافئ بالقاعدة الموالية لبري في أوساط موظفي القطاع العام، التي لم تعد رواتبها تساوي شيئًا في الوقت الراهن. في هذا السياق، تعتمد الطبقة السياسية استراتيجية المماطلة وكسب الوقت على أمل وصول التمويل الخارجي، لكن هذا النهج عبثي لا ريب. فالقطاع المصرفي ينازع راهنًا من أجل البقاء، فيما أصحاب المصارف ماضون في مقاومة إعادة هيكلة القطاع لأن تنفيذ ذلك قد يؤدّي إلى خسارتهم السيطرة على مصارفهم. ولن تفضي سياسة الإهمال الراهنة وحالة “الركود المتعمّد” التي يعيشها لبنان اليوم سوى إلى ما وصفه المسؤول في صندوق النقد الدولي إرنستو ريغو بأنه “أزمة لا نهاية لها”.
انطلاقًا من هذه الأسباب كافة، يمكننا أن نخلص إلى استنتاج بسيط وسط جميع الأنباء عن انحسار دور بري السياسي.
لن يأسف أحدٌ إذا تراجعت قدرة رئيس مجلس النواب على عرقلة التغيير، ولن يعيده أحد من التقاعد، إن وصل الأمر إلى هذا الحدّ. صحيحٌ أن بري ليس المدافع الوحيد عن هذا الوضع القائم المُهلك الذي يخسر فيه معظم الناس كل ما يملكونه، بيد أن الكثير من اللبنانيين يعتبرونه جزءًا من المشكلة، وليس جزءًا من الحل. والمفاجئ أن بري رفض الاستجابة لهذا الوضع، نظرًا إلى فطرته السياسية. لكن الفطرة السياسية لا طائل منها حين تصبّ في خدمة الجمود.