كان لرئيس روسيا فلاديمير بوتين ما أراده، فتحدى الولايات المتحدة وتحالف الأطلسي، واجتاح أوكرانيا ليفرض بالقوة ما يعتقدها مصالح روسيا. لكن الحرب لم تظهر قوة بوتين، بل أظهرت عورته: قوة عسكرية روسية متواضعة من بقايا الحرب العالمية الثانية. ولولا سلاح روسيا النووي، لكان الغرب تصدى لبوتين عسكريا ودفعه وجيشه الى محيط موسكو.
على أن العسكر ليس نقطة ضعف روسيا الوحيدة، بل كل ما يرتبط بدولة روسيا واقتصادها وقدراتها العلمية والثقافية المنعدمة. في زمن الحرب الباردة، كان الإتحاد السوفياتي صاحب ثاني أكبر اقتصاد في العالم بعد الولايات المتحدة، وكان يصنع الطائرات والسيارات والمعدات المنزلية.
اليوم، يحل الاقتصاد الروسي في المرتبة الثانية عشر عالميا، وذلك قبل بدء الحرب في أوكرانيا وقبل قيام الغرب بفرض عقوباته القاسية على موسكو. واليوم، لا يوجد في الأسواق العالمية كومبيوتر صناعة روسية، ولا تلفون، ولا تلفزيون، ولا حتى راديو (الذي صار تقنية قديمة نسبيا).
روسيا ليست قوة عالمية، على ما سعى بوتين لتصويرها منذ تسلمه الحكم في العام 2000. روسيا قوة مندثرة ما تزال تقوم ببعض الصناعات العسكرية، ولكنها عدا عن ذلك، محطة بنزين للعالم مع صواريخ نووية.
غريب أن بوتين لم يفهم الدرس. لسنوات، بدا ذكيا محنكا، ولكن الأرجح أن لعنة البقاء في الحكم لعقود حلّت عليه، فصار محاطا بالمتملقين، وخسر اتصاله مع الواقع وقدرته على فهمه وتشخيصه. فشلت كل مشاريع بوتين لإقامة نظام عالمي بديل عن الذي تقوده الولايات المتحدة. حاول إقامة مصرف دول بريكس (البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب أفريقيا)، وإصدار عملة دولية لتصبح بديلا للدولار الأميركي، عملة العالم. فشل بوتين، وفشل المصرف، وفشلت محاولة إقامة نقد مشترك.
وحاول بوتين إقامة تحالف اقتصادي يقارب التكامل مع الصين للوقوف في وجه الولايات المتحدة. لكن الصين لم تصوّت حتى إلى جانب بوتين في الأمم المتحدة ضد القرار الذي أدان اجتياحه أوكرانيا، بل امتنعت عن التصويت، في وقت تستعد بكين للالتزام بالعقوبات الدولية على روسيا، على عكس ما كان يأمل أنصار بوتين وتحالف الممانعة (إيران وتوابعها).
أما سبب تقاعس الصين عن إنقاذ روسيا ماليا، فواضح. يبلغ حجم اقتصاد الصين 15 في المئة من حجم الاقتصاد العالمي، لكن هذه الضخامة ليست مبنية على اكتفاء ذاتي، بل على صادرات الصين إلى السوقين الأميركية والأوروبية العملاقتين. بكلام آخر، حتى تحافظ الصين على حجم اقتصادها، عليها الحفاظ على تجارتها مع مجموعة الدول السبع، التي تتضمن أميركا والإتحاد الأوروبي، وبريطانيا وكندا واليابان. ويبلغ حجم اقتصاد مجموعة الدول السبع قرابة ثلثي الاقتصاد العالمي، مع شبه اكتفاء ذاتي، هو ما يجعله قادرا على فرض العقوبات على الآخرين ومنيعا في الوقت نفسه على عقوبات الأخرين عليه.
هذه الوقائع الاقتصادية وضعت الصين أمام خيارين: إما تنقذ روسيا وتتحالف معها وتخسر أسواق الدول السبع، أو تتخلى عن روسيا لتحافظ على علاقاتها التجارية مع نصف الكوكب. وتعرف الصين أنها إن اختارت روسيا، فسيتقلص حجم اقتصادها بشكل كبير، أي أنه بدلا من أن تنقذ بكين موسكو، تغرق معها.
في الحرب الباردة المقبلة، كما في الماضية، لن تقف الصين في المعسكر الشرقي، مع أنها تشبهه، بل ستحافظ على علاقاتها بالغرب، وستسعى جاهدة في محاولتها وقف التقهقر الاقتصادي الذي تعاني منه، وهي مشكلة معروفة في علم الاقتصاد بـ “فخ الدخل المتوسط”، أي أن الصين أفادت في مراحل نموها الاقتصادي الأولى بسبب انخفاض سعر العمالة، ولكنها فشلت في أن تتحول الى اقتصاد متطور فعلقت بين عالمين، نموها لا يمكنه الاعتماد على العناصر التي دفعته للنمو في سنواته الأولى وفي نفس الوقت لا يملك القدرة على النمو كالاقتصادات المتطورة.
في الحرب الباردة المقبلة معسكران: غربي تقوده الولايات المتحدة، القطب الأوحد عالميا في ظل فشل روسيا عسكريا وتباطؤ الصين اقتصاديا، وآخر تقوده روسيا بمشاركة سوريا وروسيا البيضاء. الصين ستقف على الحياد ومثلها ستفعل إيران، التي تهلل لاجتياح بوتين أوكرانيا وتلعن أميركا والغرب، ولكنها تستميت لعقد اتفاقية مع أميركا تؤدي لرفع العقوبات عن نظام طهران.
وإيران هذه أضعف بكثير من روسيا والصين، بل هي تستعين بهما وتستجديهما، مثل في اتفاقية الربع قرن الاقتصادية التي عقدتها مع الصين، أو في سعيها للحصول على تقنيات عسكرية روسية صار العالم يعرف اليوم أنها فاشلة.
علّمتنا حرب أوكرانيا بعض الدروس، أولها أن النموذج الغربي في الحكم والاقتصاد مازال الأفضل في العالم، ليس مثاليا، ولكنه الأفضل بدون منازع، وأن البدائل كلها كوراث، إن كان في اقتصاد الصين الرأسمالي الموجه، أو في الحكومة الإسلامية الإيرانية صاحبة المخيلة الحافلة بالبطولات، أو في روسيا التي تظاهرت أنها قوة عالمية ليتبين أن حتى أسطول طائراتها المدنية، أيروفلوت، هو صناعة أوروبية ويطير ببرامج أميركية، وأنه بدون الغرب وتقنياته، التي تشتريها روسيا وتستهلكها، لكانت روسيا في وضع أسوأ مما كان عليه الإتحاد السوفياتي في أسوأ أيامه.
أما في دنيا العرب، فلا دروس ولا هم يحزنون، فقط استعادة لنفس نظريات المؤامرة البالية على طراز أن الغرب خشي قوة بوتين فاستدرجه الى مأزق، أو أن الصين ستتصدى للغرب، أو أن إيران قوة عالمية يعتد بها، وما إلى هنالك من أساطير تتناقلها الأجيال التي تفنى ولكن أساطيرها خالدة لا تموت.
العالم بعد أوكرانيا سيعود إلى الحرب الباردة لأنها الوسيلة الوحيدة لمواجهة قوة نووية انفلتت من عقالها. في الحرب المقبلة، ستقود أميركا وحلفاؤها العالم، وستعيش روسيا في عزلة الى أن تتوب، وستعيش الصين على الحياد. أما إيران وأزلامها، فهي منتصرة دائما وستبقى غارقة في نفس الشقاء، قبل حرب أوكرانيا كما بعدها.