للمرة الثانية في حياته السياسية يعتذر رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع!
الاولى، كانت اسهل عليه، حين اعتذر عن الاساءات التي تسببت بها « ميليشيا القوات اللبنانية » خلال الحرب الأهلية. وكان ذلك الاعتذار الأول أسهل، لان مسؤولية جعجع الشخصية عن هذه الاساءات ليست كاملة! فـ« القوات » بدأت ميليشيا كتائبية تحت مسمى “القوى النظامية”، وتوالى على رئاستها العديد من القادة، آخرهم جعجع. إذاً، مسؤولية الاساءات كانت جماعية، وان كان جعجع حمّل نفسه مسؤوليتها واعتذر عنها!
الثانية كانت بالامس في خطابه السنوي في ذكرى شهداء « المقاومة اللبنانية »، حين ابدى أسفه الشديد لانتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية!
وهنالك تشابه بين الحالتين. ففي المرة الاولى، اراد جعجع ان يقفل باب المساءلة عن الممارسات الميليشيوية التي حمّلها له عموم اللبنانيين والمسيحيون خصوصاً، فاعتذر من دون ان يسهب في تبريرها.
وفي الثانيةـ يريد اقفال باب المراجعة في خطأه الاستراتيجي، المسمّى « اتفاق معراب » الذي ادعى فيه جعجع انه صانع رؤساء! بل وامطر اللبنانيين، عبر اجهزته المواكبة للاتفاق، من زوجته ستيريدا، الى مسؤول جهاز التواصل والاعلام في حزب القوات شارل جبور، الذي بلغ به الامر تهديد النواب عموما ونواب « المستقبل » خصوصا، ومطالبتهم بالإنصياع لما سمّاه « خيار الاجماع المسيحي » بقيادة سمير جعجع، وانتخاب عون رئيساًّ والى مهندس « اتفاق معراب »، ملحم رياشي، الذي قبض الثمن بتعيينه وزيرا، في اول حكومة للعهد العوني، ثم مستشاراً لدى « بنك سيدروس » المملوك من كريمة الجنرال عون وصهره الميمون. وصولا الى النائب « جورج عدوان » الذي ما زال يتبجح بانه « عرّاب » قانون الانتخابات المسخ الذي اوصل مجلسا نيابيا على شاكلته.
لطالما كان جعجع يردد انه من اشد العارفين ببواطن الجنرال، ومكامنه، وانه لا يريد ان “يجرب المجرب”! إلا أنه عاد، في « ساعة تخلي » (!)، فانقلب على نفسه، وعلى حلفائه التاريخيين والتقليديين، وقاد سفينة عون الى بعبدا!
انضمّ إلى المطالبين بتقصير ولاية عون!
خطاب جعجع بالامس، يحمل في طياته ايجابيات ابرزها مطالبتُه، من موقعه كرئيس لكتلة نيابية مسيحية هي الثانية حجما بعد كتلة العونيين، بانتخابات رئاسية مبكرة! وهو بذلك انضم متأخّراً الى نادي المطالبين بـ« تقصير ولاية الرئيس »، وأولهم كان « لقاء سيدة الجبل » الذي دعا ميشال عون لـ«ا لإستقالة » الصريحة، ثم من القادة المسلمين زعيم تيار المستقبل سعد الحريري.
مطالبة جعجع بتقصير ولاية الرئيس تفتح الباب أمامه لاعادة وصل العلاقات بينه وبين حلفائه السابقين الذي ابتعد هو عنهم، وليس العكس، حينما اعتمد « خيار ميشال عون »، في ما كان يسمى « قوى 14 آذار »!
وتزيل، كذلك، مفاعيل ما يُسمّى « الخط الاحمر » الذي يُزعَم أن بكركي تضعه حول الرؤساء الموارنة! علماً أن هذا الخط الأحمر قد يكون « وهمياً »، بدليل استقالة الآب المؤسّس للجمهورية الشيخ بشارة الخوري، ثم وقوف البطريرك المعوشي ضد الرئيس كميل شمعون، ثم وقوف البطريرك صفير ضد رئيس الحكومة العسكرية الجنرال ميشال عون!
من جهة أخرى، توجّه جعجع بخطابه الى المواطنين الشيعة، وهذه بادرة إيجابية ولكنه، بالمقابل، صوّر المشكلة التي خلقها ويخلقها وجود حزب الله في لبنان على انها « شيعية » وليست من طبيعة « وطنية »! وطالب الشيعة بالانتفاض على واقعهم، بعد ان خذلهم حزب الله بوعوده، وغامر بارواح شبابهم فأرسلهم للقتال على جبهات عربية بعيدة آلاف الكيلومترات عن لبنان الكيلومترات!
وهنا أخطأ جعجع! حقاً أن بعض الشيعة شكّلوا « بيئة حاضنة » لحزب الله، ولكن مشكلة الحزب الإيراني مشكلة « وطنية » وليست شيعية! ولا ننسى أن جمهوراً عونياً واسعاً، مسيحياً بالدرجة الأولى، شكّل « بيئة حاضنة مسيحية » لحزب يفاخر بولائه لدولة أجنبية!
لمن خانتهم الذاكرة: في « يوم العار الوطني »، في ٧ أيار ٢٠٠٨، خرجت سيارات العونيين في « أنطلياس » مطلقة زمامير سياراتها « ابتهاجاً » بسقوط الدولة أمام « رعاع » الحزب الإيراني!
مشكلة « الحزب » مشكلة وطنية لبنانية، وليست مشكلة طائفة أو مذهب!
وماذا بعد!
جعجع بدا وكأنه لا يملك تصورا واضحا لحل الازمة اللبنانية التي تتفاقم على المستويات كافة!
فبعيدا عن العبارات المنمّقة سجعاً والتي تستثير غرائز قد تكون محقة شكلا، الا انه عاد ليطلق معزوفة “الانتخابات النيابية المبكرة »، مع ان الانتخابات ستجري حُكماً بعد سبعة اشهر! وطبقا لقوانين المِهَل لم تعد هذه الدعوة تجدي نفعا! وتالياً، فإن تقصير ولاية الرئيس عون حسب ما ذكر جعجع لن يكون مجديا لان الانتخابات النيابية يفترض ان تحصل في ايار/مايو من العام المقبل، والرئاسية ستحصل بعدها بخمسة اشهر في تشرين الاول/اكتوبر من العام المقبل.
ولكن ماذا يفعل اللبنانيون حتى موعد الانتخابات بعد سبعة اشهر؟ وهل تقصير ولاية الرئيس عون 3 اشهر طبقا لقانون المهل هو الحل السحري لمشاكل لبنان؟
خطاب جعجع تميّز بسياسة اليد الممدودة الى كل الاطراف والى ما يسمى “ثوار 17 تشرين” والطائفة الشيعية خصوصا حيث خاطب ابناءها من منطلق وجداني وطني مفنداً معاناتهم والاخطار التي تواجههم اسوة بسائر اللبنانيين، ومشيرا الى ان من وصفهم يوما بـ« أشرف الناس » قد خذلهم، وهم يقفون مثلهم مثل اي مواطن لبنان في طابور الذل على محطات الوقود ومثله على الافران وعلى ابواب الصيدليات والافران والمدارس والجامعات. وخذلهم اكثر بعد أن وعدهم بأن الازمة التي ستضرب لبنان لن تطالهم.
اخيرا، القادة الكبار حين يرتكبون أخطاءا استراتيجية جسيمة بحجم انتخاب ميشال عون رئيسا، والتمسك بهذا الخيار لخمس سنوات، ادت الى انهيار لبنان على الاصعدة كافة، هلل ينفع معه مجرد ابداء الاسف على هكذا خيار؟
ربما مقابل الحماسة التي رافقت تسويق اتفاق معراب مطلوب من رئيس القوات ما هو اكثر بقليل من مجرد ابداء الاسف. اقله اعتماد نظام المحاسبة على ارتكاب هذا الخيار المدمر لكل من ساهم عن قصد او عن غير قصد في ارتكاب فعل انتخاب عون رئيسا.