من المعروف ان النظام السياسي الاميركي هو النظام الديمقراطي الاول في العالم.
فحسب الدستور الاميركي الذي صدر عام 1789 فإن غالبية ممثلي الشعب المنتخبين تتولى السلطة الرئاسية والتشريعية. وخلال 223 سنة التي مضت منذ تطبيقه لم يتم تعديل بعض بنوده سوى 27 مرة كان آخرها في العام 1992، اي بمعدل تعديل واحد كل حوالي 9 سنوات، فيما ان ديمقراطيات اخرى في العالم غيرت دساتيرها بالكامل عدة مرات خلال فترة اقل بكثير تبعا للتطور السياسي لهذه البلدان وللتطور العام لحقوق الانسان في العالم.
التعديلات الدستورية الاميركية لم تتناول جميعها مواد اساسية تتعلق بنظام الحكم، سوى عدد محدود ومن اهمها: التعديل 13 عام 1865 الذي ألغى العبودية، والتعديل 19 في العام 1920 الذي اعطى للمرأة حق الترشح والتصويت، فيما كانت الحقوق قبل ذلك مخصصة للذكور البيض فقط.
حسب التجربة الانسانية لا يوجد حتى الآن ديمقراطية كاملة مئة بالمئة وعلى الاغلب لن يوجد في المستقبل، فالديمقراطية مسألة نسبية تختلف من بلد لآخر ومن زمن لآخر. فالتطور الانساني على مدى العصور والحاجات الانسانية المتغيرة باستمرار يضع تعديلات دستورية ضرورية على جدوال اعمال التغيير لتلبية هذه الحاجات. وهذا ينطبق بشكل جلي، ويزداد وضوحا مع الزمن في حالة النظام الديمقراطي الاميركي الذي يعاني من ثغرات تؤثر سلبا على العملية الديمقراطية الممارسة حسب دستور لم يعد، بعد حوالي قرنين ونصف، في بعض جوانبه مناسبا للحكم الديمقراطي الاميركي الفيدرالي. واذا كان هذا النقص يلقى حاليا اهتماما وعملا دؤوبا للتغيير من النخب السياسية الاميركية، فهو يلقى عدم اهتمام او فهم مشوه من نخب مشرقية تتراوح بين انكار الديمقراطية الاميركية ودورها عالميا، وبين نقص الالمام بثغراتها التي سنتناول بعضها.
يكرس التقليد السياسي الأمريكي حكم الأغلبية، مع التشديد على حقوق الأقلية. لكن النخب الاميركية الديمقراطية تتساءل عما إذا كان هذا ما يزال صحيحا، فعدد الديمقراطيين الذين يقولون إن النظام ينزلق نحو حكم الاقلية يزداد باستمرار. فنظام الانتخابات الرئاسي غير المباشر من قبل الشعب يتم على مرحلتين. الاولى، انتخاب شعبي مباشر، والثانية انتخاب الرئيس من خلال ما يسمى Electoral College “المجمع الانتخابي”، حيث تسمح القوانين لهذه الهيئة غير المنتخبة، والمعينة من قبل المرشح الرئاسي بنفسه، بمنحه أصواتهما. عمل المجمع الانتخابي بشكل مقبول نسبيا كما اراده “الآباء المؤسسون” للدستور من قرنين ونصف لتأمين دور للولايات في انتخاب الرئيس الى جانب الدور الشعبي العام، حيث ان 41 رئيسا من اصل 46 حصلوا على الاغلبية في التصويت الشعبي العام، حصلوا ايضا على الاغلبية في “المجمع الانتخابي”، فيما عدا 5 رؤساء.
اثنان من الرؤساء الخمسة نجحوا في العشرين سنة الماضية رغم انهم لم يحصلوا على الاغلبية الشعبية، سوى أنهم حصلوا على اغلبية المجمع. فقد نجح جورج دبليو بوش عام 2000 على منافسه الديمقراطي آل غور الذي حصل على نصف مليون صوت زيادة عن بوش في التصويت الشعبي. كما فاز ترامب عام 2016 على هيلاري كلنتون باصوات المجمع رغم انها حصلت على ثلاثة ملايين صوت اكثر منه في التصويت الشعبي. وكان يمكن لترامب ان يفوز على بايدن عام 2020 فيما لو نجح في ولاية اخرى او ولايتين رغم ان بايدن حصل على حوالي ستة ملايين صوت زيادة في التصويت الشعبي. هذه الملايين الزيادة والتي تشكل الاغلبية تبدو كأنها غير محسوبة وذهبت سدى، فيما الانتخاب المباشر للرئيس يعطي وزناً متساوياً لجميع الأصوات. مما دعا تيار يتسع باطراد يطالب بالغاء المجمع من الدستور والاعتماد على الانتخابات الشعبية المباشرة لتصحيح هذا الخلل الذي ينصب رئيسا لم يحصل على اغلبية اصوات الشعب.
في مجلس الشيوخ ايضا هناك انزياح كامل للتمثيل بحجة الدفاع عن حقوق الولايات الصغيرة ذات العدد القليل من السكان، فهناك ولايات عدد سكانها اقل من مليون ولها ممثلان في مجلس الشيوخ مثلها مثل ولايات تعدادها يفوق ال30 مليونا. في وقت التأسيس كان ذلك معقولا نسبيا اذ كانت أكبر ولاية 13 ضعف حجم أصغر ولاية. اما اليوم فأكبر ولاية 70 ضعف حجم أصغر ولاية، لذلك فإن بضع مئات الآلاف من الأشخاص في ولاية « وايومنغ » مثلا يتمتعون بنفس قوة عشرات الملايين من الأشخاص في كاليفورنيا أو نيويورك. في الوقت الحالي ينقسم مجلس الشيوخ بالتساوي بين الحزبين الرئيسيين، لكن أعضاءه من الحزب الديموقراطي الخمسين يمثلون 41.5 مليون شخص زيادة عما يمثله 50 عضو جمهوري في المجلس. هكذا فالنظام المصمم لحماية حقوق الولايات الصغيرة قد يتحول لحكم أقلية حزبية. سيزداد الفارق مع الزمن اذا استمرت التغيرات الديمغرافية الراهنة ليُتوقع انه بحلول عام 2040، سيتم تمثيل 70٪ من الأمريكيين من خلال 30 عضوًا في مجلس الشيوخ، و30٪ من الأمريكيين بواسطة 70 عضوًا. علما بأن مجلس الشيوخ له نفس اهمية مجلس النواب او اكثر احيانا، فمعظم القوانين تحتاج لتصديق المجلسين، فاذا مرت من مجلس النواب، فيمكن ان لا تمر من مجلس الشيوخ الذي بتركيبته يمكن لحزب يمثل أقلية متقلصة من الناخبين منع جميع التشريعات الرئيسية تقريبًا.
حتى لو لم يسعف الحزب تمثيله في مجلس الشيوخ فهناك طريقة اخرى توفرها القوانين لاقلية في المجلس وهي ما يسمى Filibuster اي الحق الذي يكفله القانون لكل عضو مجلس شيوخ لالقاء خطاب مطول عند بحث الموافقة على تشريع مقترح، وبذلك يمكنه منع طرحه للتصويت لانه لن يُسمح لاحد بايقافه عن الخطابة! وحتى اذا تعب فاعضاء آخرين من حزبه يواصلون مهمته لاستمرار اعاقة التصويت. ولا يمكن ايقاف الفلبستر الا بتصويت 60 من اصل اعضاء المجلس المائة. وهكذا فان اقلية من اعضاء مجلس الشيوخ تبلغ 41 عضوا يمكن ان تعطل مئات التشريعات التي تريدها الاغلبية في مجلس النواب او الشيوخ، وهذا ما يهدد به اعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريون الذين يشكلون حاليا نصف المجلس. كمثال، هناك مشروع قانون للحد من تدخل المال في العملية الانتخابية، حصل على موافقة مجلس النواب منذ اسبوع وهدد اعضاء مجلس الشيوخ الجمهوريون بمنع تصديقه باستخدام “الفلبستر”!
حتى في مجلس النواب حيث من المفترض أن يكون التمثيل على أساس عدد السكان، ففي القوانين ما يسمى بال Gerrymandering الذي يوفر فرصة للحزب الذي يهيمن على الهيئة التشريعية للولاية للتلاعب باعادة رسم خريطة الدوائر الانتخابية كل عشر سنوات بعد اجراء الاحصاء العام للسكان، وهذا يفسح المجال لتغيير التركيبة السكانية في الدوائر لتصبح مناسبة للحزب المهيمن في الولاية فيزيد تمثيله في الكونغرس. يقول الإصلاحيون إن النظام الأكثر ديموقراطية سيكون إنشاء المزيد من الدوائر والمزيد من التمثيل، او تحويل اعادة رسم الدوائر الانتخابية لهيئات حيادية مستقلة لا تمثل الاحزاب المهيمنة.
جميع هذه الثغرات، اذا استمرت وتوسعت، ستؤثر سلبا على النظام الديمقراطي الاميركي بإضعاف حكم الاغلبية لصالح حكم اقلية. خاصة اذا اضفنا عاملاً مهماً جدا في الانتخابات الاميركية حيث تُمكن القوانين المال الانتخابي الذي توفره الشركات الكبرى من لعب دور اساسي في فوز المرشحين الذين تدعمهم. فيتبنّون اصدار قوانين تخفض الضرائب التي تدفعها الشركات أو تسمح لها بالاستثمار في اي مجال حتى لو كان ضارا بالبيئة وله آثار سلبية على حياة السكان. وبذلك يوفر المال انتخاب ممثلين للشعب لولا اموال الشركات الطائلة لما حصلوا على الاصوات الكافية للفوز. القوانين الحالية لا تسمح باعطاء مبالغ بالملايين للمرشح مباشرة ولكنها لا تمنع الدعاية له في وسائل الاعلام التي تكلف الملايين، بحجة ان هذا حق للشركات الكبرى من ضمن حرية التعبير المضمونة في الدستور.
هذه الثغرات معروفة وتلقى اهتماما من غالبية كبيرة من الناخبين ومئات منظمات المجتمع المدني.
ففي استفتاء شامل لمؤسسة « غالوب » وُجد ان 61 % من الاميركيين يؤيدون الغاء “المجمع الانتخابي”، فيما 35% مع الحفاظ عليه. وأحد الحجج الاساسية لمعارضة التغيير الذي يستوجب تعديلات في الدستور الاميركي ان هناك تيارا واسعا محافظا يرى انه يجب الحفاظ على التراث الدستوري الذي تركه “الآباء المؤسسون!” دون تغيير، كنص يكاد يكون « تابو » مقدساً لدى البعض رغم ان الزمن تجاوزه ولم يعد مواكبا لتطور المجتمع الاميركي، حتى ان بعض مواده اصبحت معيقة للديمقراطية التي هي بالاساس حكم الاغلبية. فضلا عن الصعوبة القصوى لاجراء التعديل، فان اقلية من ثلث زائد واحد في الكونغرس وربع زائد واحد من ممثلي الولايات تستطيع منع اي تعديل للدستور. فحتى يتم التعديل يحتاج لثلثي أصوات الكونغرس بمجلسيه أي ثلثي 534 صوتاً، ثم لموافقة ثلاثة أرباع السلطات التشريعية للولايات.
حركة التغيير تتسع باطراد، ونجاحها حسب رأيي يكاد يكون مضمونا لكون الدستور والقوانين الديمقراطية الاميركية تعطي حقوقاً اكيدة لحرية الرأي والتعبير عنه بجميع الوسائل المتاحة. ففي النهاية التغيير قادم ولكن كم من الوقت سيمضي ليتم تحقيقه؟ هذا متروك للزمن ليتم جلاؤه.
ahmarw6@gmail.com