يؤكد استهداف المليشيات المتكرر للكاظمي، بما في ذلك الهجوم على منزله هذا الأسبوع أن الكاظمي كرئيس وزراء للعراق، فعل شيئًا صحيحًا خلال العامين الماضيين.
في اللغة الإنجليزية القديمة، تعني كلمة “ترويع” اختبارًا للصبر والجلَد، أو معاناةً مع تجربة مريرة، أو التعرض للإغراء والتعذيب. وفي الديانة المسيحية، يمر المسيح بتجربة مروعة بعد موته وقبل قيامته وهو يعبر الجحيم. من المؤكد أنّ رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي لا يدّعي أنّه أكثر من مجرّد رجل يبذل قصارى جهده، لكنه أيضًا يمرّ بتجربة مروعة بينما يعيش العراق محنته المعتادة من انتخاباتٍ ومساومات سياسية شاقة ومساعٍ لتشكيل الحكومة. وفي أحدث تطور لهذه الحكاية الطويلة والمتعرجة، أسقطت طائراتٌ مسيرّة القنابلَ على منزل الكاظمي في الساعات الأولى من يوم 7 تشرين الثاني/نوفمبر، والأرجح أن الهدف المرجوّ من هذه العملية كان ترهيب السياسيين من جميع الأطياف، مع أنها لحسن الحظ لم تمسّ رئيس الوزراء بأذى.
ليست هذه هي المرة الأولى التي تستهدف فيها الميليشيات الكاظمي والمقرّبين منه. فقد حدثت المواجهة الجسدية الأولى بين الكاظمي والميليشيات المدعومة من إيران في خلال العملية السابقة لتشكيل الحكومة في نيسان/أبريل 2020، عندما قام حوالي مائة رجل مسلّح من ميليشيا “كتائب حزب الله” الإرهابية المدعومة من إيران بمحاصرة الكاظمي وحرّاسه الأمنيين في دار ضيافة رئاسة الوزراء، وهو نوع من الفنادق المخصصة للمسؤولين والزوار الحكوميين. وكان الكاظمي آنذاك رئيس جهاز المخابرات الوطني العراقي. وعلى الرغم من أن رجاله يتمتعون بحماية جيدة، كانوا عاجزين أمام مائة رجل من رجال الميليشيات الذين حمل بعضهم قذائف صاروخية من نوع “آر بي جي” مصمّمة لتفجير المركبات المدرّعة والمخابئ. ويشار إلى أن حرّاس الكاظمي كانوا قد اشتبكوا مع مقاتلي “كتائب حزب الله” قبل بضعة أيام. فانتهزت “كتائب حزب الله” الفرصة للقبض على حارسٍ شخصي وتعنيفه وإلقائه في السجن، وذلك بهدف توجيه رسالة إلى الرجل الذي توقّع الكثيرون أن يصبح رئيس الوزراء القادم. إلا أن محاولة الترهيب هذه باءت بالفشل، فقد أصبح الكاظمي فعلاً رئيسًا للوزراء، حتى بعد أن حذّر حسين مؤنس (أبو علي العسكري) من أنّ تعيينه سيُعتبر عملًا حربيًا وسوف “يحرق ما تبّقى من استقرار العراق”.
والآن لننتقل سريعًا إلى حزيران/يونيو 2020 بعد أن كان الكاظمي قد استقرّ في منصب رئيس الوزراء، ولكن بقي يقيم في الفيلا نفسها الواقعة على ضفاف نهر دجلة، والتي يملكها كاتبٌ مشهور وصديقٌ للكاظمي. عندما أمر الكاظمي بالقبض على إرهابي من “كتائب حزب الله”، أرسلت المليشيا قافلة أخرى من الشاحنات المسلّحة إلى منزله ونصبت مدفعًا مزدوج الفوهة مضادًا للطائرات في الخارج أثناء “التفاوض” على إطلاق سراح السجين. وما لا يعرفه معظم العراقيين هو أنّ الكاظمي لم يطلق سراح عنصر “كتائب حزب الله” بعد محاولات التخويف هذه. وبدلا من ذلك، تم أطلاق سراح العنصر بعد أشهر عدة بموجب أمرٍ صادر عن هيئة قضائية تعرّضت للتخويف. وبعد أسابيع فقط من توليه رئاسة الوزراء، وتلقيه إشارات مرتجفة من قادته العسكريين، لم يكن الكاظمي مستعدا للمخاطرة بالدخول في حرب واسعة النطاق مع الميليشيات.
واليوم يتمتع الكاظمي بحماية أفضل ممّا كانت عليه في ذلك الوقت، فقد صُمّمت إجراءاته الأمنية ودعمه الدولي بدقة لردع الجيش الصغير من قوات الميليشيات المتوفرة لمهاجمته. لذا أطلقوا عليه طائرة بدون طيار بدلًا من ذلك. وفيما أعرب الكثيرون عن صدمتهم من هجوم الطائرات المسيرة في 7 تشرين الثاني/نوفمبر، إلا أنها ليست المرة الأولى التي يتعرض فيها منزل الكاظمي لهجوم بطائرة مسيرة. ففي 4 آذار/مارس 2021، استشعرت الميليشيات بشكل صحيح بداية مفاوضات قبل الانتخابات لتهميشها بعد انتخابات 10 تشرين الأول/أكتوبر المقبلة. فردّت بإلقاء طائرات مسيرة بدون طيار على منازل كبار القادة السياسيين، بمَن فيهم الكاظمي. وضربت مروّحة رباعية (“كوادكوبتر”) منزله في تنبيه مسبق إلى هجوم هذا الأسبوع بالطائرة المسيرة المسلّحة.
في الواقع، يتبين من الهجمات السابقة على فريق الكاظمي الأمني في نيسان/أبريل 2020 أنّ الميليشيات مهتمّة بإيذاء أصدقاء الكاظمي وزملائه بقدر ما هي مهتمة بإيذاء رئيس الوزراء نفسه. فجهاز المخابرات الوطني العراقي هو جهاز المخابرات الأول في العراق، وهو مسؤول عن اعتقال عدد لا يحصى من إرهابيي “داعش” وغيرهم من المجرمين، غير أن الميليشيات المدعومة من قبل إيران تلاحق عناصره من أجل المتعة في محاولة لتقويض الكاظمي والنظام الذي أنشأه لحماية الصحافيين والمتظاهرين والمواطنين من هجمات الميليشيات. ففي 21 آذار/مارس 2021، اغتالت المليشيات ضابط المخابرات محمود ليث محمد في حي المنصور في بغداد. وفي 7 حزيران/يونيو، اعترضت الميليشيات الضابط الكبير في جهاز المخابرات الوطني العراقي نبراس فرمان في شرق بغداد وقتلته، فسقط وهو يقاتل وليس بيده سوى مسدّس. كما تعرّض المدنيون المقرّبون من الكاظمي للخطف والتعذيب وأحيانًا القتل. وليست شبكة معارفه بمنأى عن استهداف المليشيات للشعب العراقي، فهم أيضًا في الخطوط الأمامية ويعيشون هذا الخوف يوميًا.
لكنّ استراتيجية الكاظمي بالرد التدريجي ضد الميليشيات بطيئةٌ بشكل محبط: فهي تقتصر على استبدال ضابط مفضوح من هنا، واعتقال إرهابي واحد من هناك، وقضية واحدة لمكافحة الفساد، كلاً على حدة. إلا أن الاعتقالات تتراكم والقضايا المرفوعة أمام المحاكم تؤتي ثمارها. ويستغرق مثل هذا العمل وقتًا طويلًا، والعراقيون محقون في نفاد صبرهم. مع ذلك، وفي حين أنً أي رئيس وزراء عراقي يمكن أن يصبح بسهولة ديكتاتورًا وقائدًا لفرق الموت، لا يريد الكاظمي أن تسيل أنهار من الدماء في بغداد إذا كان بالإمكان تخفيف آلام الناس العاديين عبر إضعاف تلك الميليشيات بشكل تدريجي وثابت. ولهذا السبب تعتقل قوات الأمن العراقية عناصر الميليشيات بدلًا من إعدامهم بإجراءات مستعجلة، مع أنّه قد يجري إطلاق سراحهم لاحقًا بسبب الفساد والترهيب. ولا تزال سيادة القانون مهمّة بالنسبة إلى البعض في العراق، وما زال هؤلاء يعتقدون أنّ بإمكانهم الفوز من خلال سيادة القانون بدلًا من الخروج عليها. الكاظمي هو واحد من العراقيين الذين يواصلون الدفاع عن سيادة القانون، وعلى المجتمع الدولي أن يدرك مدى ندرة العثور على زعيم يرفض إطلاق العنان للوحشية عندما يكون تحت ضغط شديد للقيام بذلك.
ومن المناسب أيضًا أن تستهدف الميليشيات المدعومة من إيران هذه المرة الدرجات الأمامية من منزل الكاظمي المتواضع على نهر دجلة. فعلى هذه الدرجات بالذات وقف قائد “فيلق القدس” التابع لـ”الحرس الثوري الإسلامي الإيراني” قاسم سليماني ليعرض على الكاظمي رئاسة الوزراء في عام 2018 شرط أن يوافق على الخضوع لطهران ويكون رئيسًا لحكومتها في العراق. وعندما رفض، اختاروا عادل عبد المهدي بدلًا منه، واستمرت حقبته المدمّرة لعامين فقط. وبالفعل أصبح الكاظمي رئيسًا للوزراء بعد ذلك لكن ليس بفضل تدخّل إيران وعلى الرغم من تهديدات القتل من إيران وميليشياتها. الآن، وفى حين يسعى العراق الى تشكيل حكومة جديدة بعد الانتخابات، وضعت الميليشيات ذاتها خطاً أحمر يفيد بأن رئيس الوزراء القادم يمكن أن يكون أي شخص باستثناء الكاظمي. وبالطبع ينقل هذا التصرف إلينا رسالة ما.
على حد قول الكاتبان العراقيان حمزة حداد ومحمد الوائلي في مقال نُشر في منتدى “فكرة” عام 2018، إنّ العراق بحاجة إلى قائد ذي رؤية إذا ما أريد للبلاد أن تتعافى. لكنني أقول إنه يحتاج أيضًا إلى قائد شجاع ذي ضمير حيّ وحسٍّ بالمسؤولية. إن مشاهدة العراق وهو يتأرجح تحت قيادة عبد المهدي وبدؤه في التعافي تحت حكم الكاظمي، جعلني أدرك أهمية هوية وشخصية رئيس الوزراء العراقي للوطن. وفى ظل هذا النظام المركزي، من الضروري وجود رئيس وزراء جيد لإبقاء العراق على المسار الصحيح. إن تعيين مثل هذا القائد يمثل خطوة إيجابية وحيوية تجعل التغيير الإيجابي ممكنا. وبغضّ النظر عمّا إذا كان الكاظمي سيصبح رئيسًا للوزراء لولاية أخرى أم لا، تشير جهود الميليشيات لإغرائه وتعذيبه إلى أنه فعل شيئًا صحيحًا في هذين العامين الماضيين، وأنّه على رؤساء الوزراء المقبلين أن يحذوا حذوه في المستقبل وعلى أصدقاء العراق دعم المثل الذي ضربه.