الأدهى في المقاربة التركية للمسألة السورية لا يكمن فقط في حل العقدة الكردية أو تنفيذ التعهد باحتواء أو تصفية المجموعات المصنفة إرهابية، بل يتصل أيضا بشبكة العلاقات الإقليمية والدولية لأنقرة.
وضع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان جانباً شعاري صديقه السابق أحمد داوود أوغلو عن “صفر مشاكل” و”تركيا يابان الشرق الأوسط”، واعتمد المواجهة على كل الجبهات مراهناً على تعزيز دوره وموقع بلاده على الخارطة الدولية.
بعد ثلاث سنوات على محاولة الانقلاب الفاشلة واستناداً إلى دروس المعمعة السورية والمسألة الكردية والانغماس التركي في القضايا الإقليمية، يضع أردوغان بلده في موقع تخبط استراتيجي بين واشنطن وموسكو، وفي توتر مع الاتحاد الأوروبي واليونان ودول عربية أساسية. إنها سياسة على جانب كبير من المغامرة غير المحسوبة، بينما الاقتصاد التركي في وضع صعب وتأكد التراجع السياسي عبر هزيمة انتخابات إسطنبول.
يتوجب التذكير أن أردوغان كان يرتبط بعلاقات طيبة مع النظام السوري قبل 2011، ولذا تردد قبل اتخاذ خيارات أخرى، وإلى التحول لاعباً أساسياً داعماً للمعارضة العسكرية والحركات الإسلامية المقاتلة ومعاديا للصعود الكردي داخل سوريا. بيد أن تفاقم النزاع في سوريا ليصبح أول نزاع متعدد الأقطاب في القرن الحادي والعشرين مجسداً للعبة الكبرى التي يمكن أن تغير وجه الإقليم وتعيد تركيب دوله وخرائطه، دفع بأنقرة إلى الغوص في المعمعة السورية.
لكن الانخراط التركي اصطدم بتردد الحليف الأميركي والتدخل الإيراني والروسي. ولا شك في أن بروز العامل الجهادي زاد من تعقيد النزاع وانحراف الحراك الثوري السوري عن أهدافه، وجرى استغلال ذلك ملياً من النظام وداعميه ومجمل اللاعبين الخارجيين.
ولم يسهّل بروز القوى الكردية المقربة فكريا وتنظيميا من حزب العمال الكردستاني (العدو اللدود حسب أنقرة) أداء أردوغان على الساحة السورية. ولولا رقصته على الحبل بين واشنطن وموسكو بعد المحاولة الانقلابية لما تمكن في صيف 2016 من بدء تكوين منطقة نفوذ له في الشمال السوري يعمل على توسيعها.
بالرغم من الأعباء التي تحملتها أنقرة بسبب تبعات النزوح السوري، إلا أن ورقة اللاجئين كانت سببا في الدعم المالي الأوروبي وفي ربط الصلة مع برلين والاتحاد الأوروبي. وعبر البوابة السورية فرضت أنقرة نفسها في المعادلة الإقليمية ونتج عن ذلك تغيير على الصعيد الداخلي أتاح النقلة إلى النظام الرئاسي السلطوي، لكن هذه المكاسب بقيت ناقصة بعيون القيادة التركية طالما يخيّم شبح الشريط الكردي في المناطق السورية الملاصقة والقريبة للحدود، وطالما ليس هناك حل نهائي في سوريا يضمن المصالح التركية على المدى البعيد.
والأدهى في المقاربة التركية للمسألة السورية لا يكمن فقط في حل العقدة الكردية أو تنفيذ التعهد باحتواء أو تصفية المجموعات المصنفة إرهابية، بل يتصل أيضا بشبكة العلاقات الإقليمية والدولية لأنقرة وخاصة بالنسبة للعضوية في حلف الناتو والتقارب الحديث مع روسيا.
وأخيراً دخل التوتر المتصاعد بين أنقرة وواشنطن على خلفية شراء الأخيرة الصواريخ الروسية أس-400 مرحلة جديدة مع إعلان واشنطن أنها لن تبيع مقاتلات أف-35 لأنقرة، الأمر الذي يفتح الباب أمام المزيد من الضغوط الأميركية على تركيا، ويهدد بالمزيد من إضعاف الاقتصاد التركي.
لكن تحميل الرئيس دونالد ترامب المسؤولية لإدارة باراك أوباما التي لم تسمح ببيع الباتريوت لتركيا، وتريثه على عكس عادته في فرض عقوبات إضافية، ينم عن رغبة في عدم القطيعة مع تركيا، وذلك في حقبة المواجهة مع طهران ولضمان عدم ذهابها نحو المعسكر الروسي.
وربما كانت واشنطن على يقين بأن أنقرة ربما تخطط لشراء طائرات “سو-57” وهذا سيشكل انتصارا للدبلوماسية الروسية تريد واشنطن إحباطه، لأنها تراقب عن كثب تطور العلاقة بين القيصر والسلطان مند قيام أردوغان بالاعتذار من الرئيس فلاديمير بوتين عن إسقاط الطائرة المقاتلة الروسية في 2015، وما لحقه من تطوّرات في العلاقة الروسية – التركية.
فقد ابتعدت أنقرة عن واشنطن بقدر ما اقتربت من موسكو، حتى وإن كان ذلك في البداية للضرورة التكتيكية التي يمكن أن تتحول إلى خيار استراتيجي في حال نهاية العلاقة مع الناتو، خاصة أن الساحة السورية كانت مختبراً لتقاطع المصالح والتنسيق بين موسكو وأنقرة من خلال مساري أستانة وسوتشي أو عبر دروب أخرى.
وفي هذا السياق يبرز غموض حول الموقف الروسي من التنقيب عن الغاز في شرق المتوسط واختبار القوة التركي مع أوروبا واليونان ومصر وقبرص. وحسب مصادر مطلعة لن تدعم روسيا النهج التركي وهي تطمح للهيمنة على مادة الغاز، وهذا من أسباب وجودها على الساحل السوري.
بيد أن أردوغان يحرك بيادق أخرى على الرقعة الإقليمية ويلوّح بورقة غزو شرق الفرات في سوريا حيث توجد القوات الأميركية إلى جانب قوات سوريا الديمقراطية تحت القيادة الكردية، وذلك تحت غطاء المدى الأمني الحيوي، وقد سبق له أن لوّح مرارا بعمليات عسكرية لكن الممانعة الأميركية وعدم الحماس الروسي قطعا الطريق أمام القوات التركية.
وهذه المرة يحاول الرئيس التركي تجنب العقوبات الترامبية عبر السعي لإبراز حاجة واشنطن إلى “قاعدة إنجليريك” وإلى حماية وجودها في سوريا وعدم التضحية بحلفائها الأكراد.
وصلت ديون تركيا الخارجية إلى 460 مليار دولار. لكن تركيا تبقى من الدول الأساسية في الشرق الأوسط وتحوز قدرات إنتاجية صناعية وإنشائية ملحوظة. لكن المشكلة تكمن في أداء أردوغان وطموحه اللامتناهي، وبدل أن يكون عنصر استقرار يمكن لمشروعه في التجديد الإمبراطوري أن يهز استقرار الإقليم ويقوّض تركيا.