تقدّم السنوات الثلاث التي أعقبت نهاية الحرب العالمية الأولى، 1914- 1918، برهاناً على وجاهة هذا الرأي، فأهل دمشق، وبقية المدن التي أصبحت في ما بعد تُعرف باسم “المدن السورية”، استقبلوا الأمير العربي الحجازي، فيصل بن الحسين بن علي، بحفاوة لا نظير لها، وفتحوا له أبواب السرايا، وساعدوه على إقامة دولته التي عُرفت باسم الدولة الفيصلية، وكذلك أيّدوه في إعلان “المملكة السورية” يوم 8 مارس/ آذار 1920، وتنصيب نفسه ملكاً عليها، ولم يكلّف أحد منهم خاطره، منذ ذلك الوقت، فيسأل: لماذا نحن السوريين يحكمنا رجل من دولة أخرى! يا سيّدي، المهم؛ مع قدوم القوات الفرنسية بقيادة الجنرال غورو إلى سورية، تنفيذاً لقرار الانتداب الأممي، بدأت الاحتجاجات والثورات تعمّ البلاد السورية، في شمالها وجنوبها، وشرقها وغربها، وبدأت صفة “البطل” تظهر في المتداوَل اللغوي اليومي، ثم في الكتب التي أرّخت لتلك الأحداث، فأُطلقت على كل مَن حمل السلاح في وجه الفرنسيين، ولو لم تكن أفعاله السابقة، أو الآنية، أو اللاحقة، تمتّ للبطولة بصلة.
لم يكن وزير حربية المملكة الفيصلية، الفريق يوسف العظمة، يعادي الدولةَ العثمانية التي بقيت تحتلّ البلاد التي عرفت لاحقاً باسم “سورية” أربعمائة سنة، فسيرتُه تقول إنه تلقّى دراسته العسكرية في إسطنبول، وحصل على رتبة يوزباشي حرب (نقيب) في الجيش العثماني سنة 1907، ومثله إبراهيم بيك هنانو (الرابع من اليمين في الصورة أعلاه) ، الذي درس في إسطنبول التركية، وتسلّم، في الدولة العثمانية مناصبَ عديدة، ووصل إلى مرتبة قائممقام، في منطقة أرظروم، وتزوّج تركية، ثم عُين قاضياً في بلدته كفرتخاريم، واعتباراً من شهر أكتوبر/ تشرين الأول 1918، أصبح من أركان الحكومة الفيصلية، إذ عَهد إليه فيصل برئاسة ديوان ولاية حلب، إلى جانب الوالي رشيد طليّع، وهذا ما يفسّر لنا اندفاعَه للثورة ضد الفرنسيين في شمال سورية، على نحو مبكّر من قدوم الجنرال غورو. يعني، وعذراً من حضراتكم، لم يثر إبراهيم هنانو للدفاع عن استقلال سورية، مدافعاً عن شعب سورية، كما تقول كتب التاريخ المتوفّرة، بل عن حكومته الفيصلية، وهذه ليست إدانة له، بل توصيف للحالة. أضف إلى ذلك أن علاقته بالأتراك بقيت جيّدة، والدليل وقوفُه في وجه مواطنين فوضويين كانوا يريدون تمزيق العلم العثماني، في أثناء انسحاب القطعات العسكرية التركية في أواخر الحرب، قائلاً: كيف نمزّق علماً عشنا تحت ظله أربعة قرون؟ وبعد إعلانه الثورةَ، زوّده الأتراك بالسلاح والعتاد، وبمدفع حربي، مع طاقمه، ليستخدمه في المعارك ضد القوات الفرنسية.
يستخدم السوريون، منذ السابع عشر من إبريل/ نيسان 1946، مصطلح “الجلاء” للتعبير عن انتهاء فترة الانتداب، ويلخّصون العملية بقولهم: في هذا اليوم التاريخي، تم جلاء آخر جندي فرنسي عن تراب سورية الطاهر. وكان حرياً بهم أن يتحدّثوا عن استقلال سورية، ويسعوا إلى تحقيقه، ولكن الواقع كان مختلفاً، فبعد “الجلاء” بدأت ثلاث قوى داخلية تتصارع على السلطة في سورية؛ الإسلاميون الذين يرونها أرضاً إسلامية، لا حدودَ لها، والقوميون الذين رأوها قُطراً صغيراً من الوطن العربي الكبير، والعسكر الذين حسموا كل أنواع الجدال بدبّاباتهم ومدافعهم وبنادقهم، فكان يحتل البلاد جنرالٌ، ويظهر أمام شعبه متبختراً بنجومه ونياشينه، حتى يقتحم المشهدَ جنرالٌ آخر، ويحلّ محلّه، ويتبختر، ويخطب كاذباً على الشعب الغلبان …
وبعد أربعة انقلابات متتالية، ومضيّ أربع سنوات أخرى، وفّقهم الله برئيسٍ غير سوري، جمال عبد الناصر، فقالوا له: تعال استلمها، واستعرض شعبيّتك الجماهيرية فيها، وبلا استقلال، وبلا بطّيخ!