وصلنا إلى أن الوهابية هي ما ينبغي للمقدّس أن يكون عليه في الاقتصاد السياسي لمجتمع ما قبل الدولة. وفي سياق كهذا نشأ التقاسم الوظيفي للدنيوي والديني بين الحاكم والفقيه في التاريخ السياسي للدولة السعودية. ولا ينبغي الوقوع في وهم أن أمراً كهذا أنشأ حدوداً فاصلة بين الاثنين، أو منح الثاني أولوية على الأوّل.
في هذا النوع من التقاسم الخشن، الذي يُبقي على حدود وصلاحيات متداخلة، ويمنح الأوّل أولوية لا تقبل التفاوض، ما يفسّر التوتر الذي يسم العلاقة بين الطرفين، وقد يؤدي إلى حرب مكشوفة، كما حدث في 1929، عندما سحق الحاكم ميليشيات “إخوان من طاع الله” القبلية بتحريض ومساعدة مباشرة من بريطانيا، بعدما تكررت هجماتهم (الغزو والسلب، والقتل طبعاً) على العراق. وقد كان هؤلاء ذراعه العسكرية الضاربة.
ثمة معالجة مستفيضة في كتاب “الوهابيون والعراق: عقيدة الشيوخ وسيوف المحاربين” لـ”رسول محمد رسول”، الصادر بالعربية عن دار رياض الريّس (2005) لذلك، رسمنا في معرض كلام سبق عن تمرّد جهيمان في الحرم المكي 1979 خيطاً يعود إلى خمسين عاماً سبقته.
ولا يعنينا، هنا، الغوص في تفاصيل تاريخية، بل تسليط الضوء على فرضية تكاد تكون غائبة في دراسات وتحليلات العرب والعجم للوهابية، أعني أن نتائج التوتر الدائم بين ممثلي الدنيوي والديني، وأولوية الحاكم على الفقيه، وحسم المجابهة الحتمية بين الطرفين في عشرينيات القرن الماضي، تمثّلت في العمل على تطهيرها من كل فكرة، أو تجليات، محتملة لشيء اسمه “السياسة”، وحصرها في تعريفات شكلانية للطقوس والإيمان بلا ثقافة (كما عرّفه “أوليفيه روا” في “الجهل المقدّس“).
لم يُسهم في نجاح عملية التطهير والتعقيم “السيف والذهب” وحسب، بل ضمور وفقر المفاهيم الأصلية للوهابية، أيضاً. لذا، يصعب الكلام عن آلام أيديولوجية صاحبت عملية التطهير والتعقيم، أو “التطعيم” ضد السياسة (إذا شئت). وبهذا المعنى، ينبغي النظر إلى العلاقة بين الأيديولوجيا المعنية، وطفرة النفط، بطريقة جدية تماماً، فلولا الطفرة غير المسبوقة في تاريخ تراكم الثروة في العالم، وجملة التحولات التي شهدها العام 1979، لما تمكنت الوهابية من اجتياز الحدود خارج بيئتها القبلية والطبيعية الأولى.
على أي حال، سبقنا تسلسل الأفكار بخطوة واحدة. فلا ينبغي غض النظر عن عوامل خارجية جعلت من عملية “التطعيم” ضد السياسة، في نظر القائمين عليها، خيار حياة أو موت.
كانت الناصرية أهم وأخطر الرياح التي هبّت من وراء الحدود.
وإذا كان ثمة من فضيلة لعبد الناصر، تكاد تكون منسية في أيام النحس هذه، فتتمثل في اقتحام لغة السياسة وخطابها، على أمواج الأثير العابرة للحدود، بواسطة جهاز عجيب اسمه “الراديو”، في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بمفردات راديكالية ومُفزعة، تماماً، كالعدالة والمساواة، والحرية، والقومية العربية. لذا، صار ذم القومية العربية، والمفردات ذات الصلة، بمثابة حائط الصد. وقد استدعى حائط الصد استثناءات من نوع ما في عملية “التطعيم” ضد السياسة، فصار من الواجب تحويل العداء للقومية إلى جزء من ضرورات الإيمان، وإنشاء مكافئ لها يصلح لنقدها ونقضها، يتمثل في قومية دينية، وطائفية، مضادة.
يمكن العثور على شواهد لكل ما تقدّم في حقول مختلفة. ومع ذلك تكفي، هنا، الإشارة إلى قائمة “مؤلفات” بن باز، أحد مهندسي مشروع التوسّع الأيديولوجي، في العالم العربي، والعالم، في زمن ما بعد الطفرة النفطية. فمن بين قائمة طويلة من “المؤلفات” (لا تتجاوز أحياناً وريقات تعد على أصابع اليدين) نجد مؤلفاً “دنيوياً” واحداً بعنوان “ذم القومية العربية”. ولا يعنينا كيف “ذمّ” المذكور القومية العربية، بل حقيقة أنه فعل ذلك كجزء من مشروع “التطعيم” ضد السياسة، وبناء حائط الصد ضد الناصرية، ونقدها ونقضها بقومية دينية طائفية متوّهمة.
وبهذا المعنى، وضمن تأويلات كثيرة “للجهاد الأفغاني“، فإن التأويل الذي لم ينل نصيبه من الاهتمام هو النظر إلى “الجهاد الأفغاني” كتجربة حيّة “في المعمل” لعملية التطعيم ضد السياسة من ناحية، وإنشاء قومية دينية وطائفية من ناحية ثانية. وفي الأمرين ما يحقق اختزال الإيمان في طقوس شكلانية، ويضمن انفصاله عن حاضنته اللغوية والثقافية، ويكرّس هويته الطائفية.
وبما أن لا شيء يحدث “على الأرض” دون أن تحلّق “فوقه” سحابة تمثل حقله الرمزي والدلالي، أنجبت التجربة الأفغانية “في المعمل” لغتها ومفرداتها: صار في وسع الإنسان أن يكون “سنيّاً” صالحاً إذا انخرط في حرب ما، وصارت الحرب بين كفّار ومؤمنين، وصار الكفّار ما ليسوا هو، حتى وإن كانوا من عائلته وأقربائه. ولا يعنيني، هنا، سرد أمثلة مُفزعة، فما تبقى من المساحة المُتاحة يمكن استثماره بشكل أفضل.
أعنى: ما حدث من انزياح “على الأرض”، وانفصال مُطلق عن السياسة ولغتها، تجلى في الحقل الرمزي والدلالي لتحوّلات لاحقة بداية من تجربة “في المعمل” ووصولاً إلى “خلافة الدواعش” في عودة “اللغة السياسية للإسلام”. نشر برنارد لويس كتاباً بهذا العنوان في عام 1991، وتُرجم إلى العربية بطريقة تفتقر إلى أدنى قدر من النزاهة بعنوان “لغة الإسلام السياسي”.
وكل ما نرى من فوضى المفاهيم، وآلام الحاضر، ناجم عن استحالة حشر عالم الأزمنة الحديثة، بما أنجبت من لغة ومفردات، في الثوب الضيّق للغة الإسلام القروسطي السياسية، بما فيها من أخيلة ومفردات، كما فسّرها، أي اللغة، لويس (الذي أتفق معه هذه المرّة رغم بغضي لكل ما يمثل). وإذا شئت تفسير أحد العوامل، التي لا يتكلم عنها أحد، في كارثة انهيار الحواضر فتّش عما نجم عن محاولة حشرها في ذلك الثوب من تمزقات في الجسد والروح.
فاصل ونواصل.