كيف يمكن لظاهرة “إلغاء الآخر” أن تبرز بقوة عند العديد من رافعي شعار “التعايش مع الآخر”، بعد انتشار خبر قيام دولة الإمارات العربية بالتمهيد لتطبيع العلاقات مع إسرائيل؟
فالذين دافعوا بصورة “مزيفة” عن « التعايش »- وكانوا ولا يزالون يطالبون بإلغاء عقوبة السجن عن كل من يغرد في تويتر وعن كل من يعبّر عن رأيه في وسائل التواصل الاجتماعي- وصفوا جميع من أيدوا خطوة الإمارات بـ”الخونة”! وهو تعبير يعكس تناقضا واضحا وصريحا وغير مفاجئ عاشه هؤلاء. إذ كيف لمفهوم “التعايش” أن يتعايش مع مفهوم “الخيانة”، والذي يعني فيما يعنيه إقصاء كل من يختلف معي في الحلول المطروحة لمعالجة القضية الفلسطينية وفي الدفاع عن حقوق الفلسطينيين؟
التخوين هنا لا يعني فحسب رفض الحلول المختلفة وإقصاء أصحابها، إنما يعني أيضا أن الحلول المتبنّاة من جهة معينة تعكس الحقيقة غير القابلة للتغيير، أو بتعبير آخر تعكس الحقيقة المطلقة والخير المطلق، وأن الحلول المختلفة أو المخالفة ليست إلا كذبا مطلقا وشرا مطلقا. وهي مفردات لا يمكن أن تساهم في تعزيز التعايش في المجتمع وإنما تساهم في تكريس الاستبداد.
و”التخوين” كتهمة لا تختلف إن صح التعبير عن مرادفتها تهمة “التكفير” في مسعى الإقصاء. فهما يحرّضان على الاعتداء على صاحب الرأي المخالف، وقد يبرّران استخدام العنف الجسدي ضده. أي أن “العنف الرمزي والعنف المادي” حاضران في التهمتين.
كذلك، نحن أمام حالة من الهلع متعددة التمظهر. هلع من استخدام العنف الرمزي والمادي ضد المتهم بالتخوين بسبب اختلاف الرأي، وهلع من انتشار هذه الثقافة في المجتمع، ثم هلع من عدم اكتراث متبنّي مفهوم الخيانة ومطلقي تهمة التخوين من التناقض المفاهيمي الذي يعيشونه.
كما أننا لسنا في وارد مواجهة بعض الأصوات الفردية التي تطلق مثل تلك الاتهامات، بل في مواجهة ظاهرة ثقافية-مجتمعية خطيرة، يؤدي سلوكها إلى تبني ما تمارسه الحكومات المستبدة. فنحن أمام مسلك اجتماعي تأسس نتيجة لعدم معالجة مفهوم الاستبداد بصورة جذرية، إذ آثرنا مصارعة المفهوم لأسباب مصلحية، لا لأسباب معرفية. فكان المستبد الحكومي محل إدانة، فيما المستبد الخارج من ثقافتنا المؤدلجة، كفرد ثم كجماعة، كان محل ترحيب.
من شأن مفهوم “التكفير” أن ينبني على أسس من علم الكلام وعلم الأصول وعلى تفسير النصوص واستنباط الأفهام منها. في حين ينبني مفهوم “الخيانة” على أيديولوجيا قومية أممية متشددة، ما يجعلها تتبنى التفسير المطلق الدال على ذات عنصرية، لذا نجدها تطلق كلمات إقصائية حادة مصحوبة بجملة من العبارات الإنفعالية والطاردة لأي صورة من صور التعايش أو احترام الآخر المختلف، فكان “التخوين” أحد أبرز هذه الكلمات.
ولقد توصلت غالبية المجتمعات الحديثة إلى حلول لمسألة الاختلاف والتعايش بعدما تعرضت الثقافة فيها لمعالجة جذرية. وكان من أبرز نتائج ذلك تجاوز مفهوم الخيانة الإقصائي والعمل على تقبل الآخر المختلف. بينما لا تزال الغالبية العظمى من المجتمعات العربية والمسلمة، ومنها المجتمع الكويتي، راسخة في مستنقع الإقصاء بتأكيدها على وصم أي مخالف لرؤاها المؤدلجة بالخائن.
يتجلى ذلك بوضوح في موضوع المبادرة الإماراتية للتطبيع مع إسرائيل. فمن وافق وأيد وطبّل وسعى للمبادرة فهو حسب الأيديولوجيا العروبية القومية، خائن للقضية الفلسطينية وخائن للعروبة، أو هو من “خونة التطبيع” مع إسرائيل، إذ لا مجال هنا لاختلاف الآراء حول الرؤى المتعلقة بمعالجة القضية الفلسطينية. فأنت إما معي وإما خائن. وهذا هو ذات الفسطاط الذي أستخدمه أسامة بن لادن بل يستخدمه الإسلام السياسي لتفسير مواقفه.
إن القضية الفلسطينية بشكل خاص، حسب الباحثة التونسية آمال موسى، “كانت أكثر المستندات قوة في توجيه تهمة الخيانة وقد وصل الأمر إلى أن مجرد حضور مهرجان شِعر فيه شعراء إسرائيليون يسمى « تطبيعا »، ومن ثم « خيانة »، وهناك من يعتبرها خيانة عظمى. لذا فإن ثقافة التخوين والتكفير لا تثير إلا الخوف والرعب وتمنع أي حوار وتسوّغ اللجوء للعنف بأشكاله المختلفة، لذلك فإننا نحتاج إلى مراجعة هذه الثقافة من دون أن تكون هذه الدعوة في حد ذاتها سبباً للتخوين والتكفير”.
- كاتب كويتي