تُعتبر سلطنة بروناي، التي نادراً ما يظهر إسمها في نشرات الأخبار، من أصغر دول جنوب شرق آسيا لجهة المساحة وعدد السكان. فإجمالي عدد سكانها الذين يعيشون على مساحة 5.7 آلاف كيلومتر مربع أقل من نصف مليون نسمة، منهم نحو 21.2 بالمئة من ذوي الإثنية الصينية التي لا تدين بالإسلام، فيما النسبة المتبقية من المسلمين المحافظين وذلك طبقا لآخر إحصاء صادر عن وكالة المخابرات المركزية الأمريكية.
في الوقت نفسه تعتبر هذه البلاد الأغنى ضمن جاراتها الآسيويات بسبب ثرواتها من النفط والغاز. لكن المختصين يقولون أن هذه الثروة سوف تنضُب خلال عقدين من الآن إذا ما استمر الإنتاج والتصدير بالمعدلات الحالية، ولم يتم إستكشاف حقول جديدة. وعليه فإن حكومة “السلطان حسن البلقية”، التي تـُوصف بأنها أكثر حكومات المنطقة شمولية، في سباق مع الزمن لتنويع إقتصاد بروناي عبر إيجاد مصادر جديدة للدخل من خلال تنمية السياحة وتصنيع الأطعمة الحلال وإستضافة المصارف العالمية ذات المنافذ الإسلامية.
على أن هذه الخطط إصطدمت بما أقرته الحكومة قبل خمس سنوات (2014) من قوانين وتشريعات حول تطبيق أحكام الشريعة الإسلامية في البلاد والتي إشتملت في مرحلتها الأولى على “التعزير” المتمثل في فرض الغرامات المالية على من يتخلف عن أداء فريضة صلاة الجمعة أو أولئك اللواتي يحملن خارج إطار العلاقة الزوجية مثلا.
ويقال أن تلك الخطط سوف تصطدم أكثر بتطبيق المرحلة الثانية من أحكام الشريعة التي ستشتمل على إقامة الحدود الشرعية بحق مرتكبي السرقة والزنا والاجهاض والإساءة لمقام النبي صلى الله عليه وسلم.
وبطبيعة الحال، وكما جرت العادة في مثل هذه الحالات، راحت منظمات حقوق الإنسان الغربية تتسابق في إنتقاد حكومة بروناي خوفا من أنْ تشمل الأحكام المذكورة المثليين من الجنسين الذين باتوا الشغل الشاغل لهذه المنظمات الحقوقية، وقد انضم إليها في الإنتقاد الممثل الأمريكي الشهير جورج كلوني والمغني البريطاني إلتون جون اللذين استخدما مواقعهما على شبكات التواصل الاجتماعي للدعوة إلى مقاطعة الفنادق التسعة العالمية الكبيرة التي يملكها السلطان حسن بلقية في أوروبا والولايات المتحدة وعلى رأسها فندق دولشيستر في قلب العاصمة البريطانية، وفندق بيفرلي هيلز في كاليفورنيا سواء لجهة الإقامة أو الاستفادة من مناهلها. أما شريكات بروناي في رابطة أمم جنوب شرق آسيا المعروفة إختصارا بإسم “آسيان” فقد فضلت إلتزام الصمت، معتبرة الأمر شأنا داخليا خاصا ببروناي، خصوصا أندونيسيا القريبة التي لا يريد رئيسها “جوكو ويدودو” الدخول في جدل وهو يخوض انتخابات رئاسية جديدة بالتحالف مع “جماعة نهضة العلماء” القوية.
كذلك فعل السلطان حسن البلقية البالغ من العمر 72 عاما والذي يحكم بلاده بقبضة حديدية منذ نصف قرن (تولى العرش في عام 1967). إذ لم يصدر عنه أي رد تجاه الإنتقادات التي صدرت من حكومات الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا وأستراليا وألمانيا وغيرها بإستثناء حديث متلفز في الثالث من أبريل الجاري أكد فيه أن تطبيق المرحلة الثانية من أحكام الشريعة دخل حيز التنفيذ وأنّ ما يقوم به هو واجب وطني وديني بإعتباره سلطانا لبلد مستقل ذي سيادة.
المحللون والمراقبون الذين خاضوا في هذه المسألة قالوا أنّ ما يقوم به السلطان بلقية مجرد عمل رمزي وتقنين لما هو قائم فعلا على أرض الواقع، مذكرين بأن بروناي لديها محاكم شرعية إسلامية منذ ما قبل الاستعمار البريطاني في العقد الأول من القرن العشرين وأنه حينما قدم البريطانيون أسسوا لنظام قضائي مدني حديث لم تـُستبعد منه الأحكام الإسلامية، وبالتالي فإن الخطوات التي أقدمتْ عليها حكومة “بندر سيري بيغاوان” ليست سوى توسع في أحكام الشريعة لتطبق بحق السكان غير المسلمين في حالات محدودة مثل الجهر بالأكل والشراب في شهر رمضان والخلوة غير الشرعية وإقامة العلاقات المحرمة واستهلاك الكحول والمخدرات.
وبالنسبة للغالبية العظمى من مواطني بروناي المحافظين بصفة عامة، والذين يتمتعون بمستويات معيشية جيدة نتيجة للإنفاق والدعم الحكومي الكبير المتأتي من دخول النفط، فإن تطبيق أحكام الشريعة ما هو إلا إنعكاس لهويتهم الوطنية والدينية. أما الآخرون من غير المسلمين من الإثنيات الصينية والهندية ومعهم رجال الأعمال الأجانب فإن المخاوف تساورهم، خصوصا وأنهم غير منتظمين في مؤسسات مدنية تستطيع الدفاع عن خياراتهم بسبب البيروقراطية والانظمة المنيعة الحائلة دون ذلك.
في هذا السياق يعتقد “مايكل باكيليت” المفوض السامي الأممي السابق لحقوق الإنسان أن تطبيق أحكام الشريعة في بروناي سوف يكون رمزيا لأنه نادرا ما طبقت البلاد ما سنته من أحكام شرعية، مضيفا بأن الكثير من الجرائم والمخالفات التي تمّ التحقيق فيها أمام المحاكم الشرعية وصدرت الأحكام فيها لم تنفذ، بما في ذلك أحكام الإعدام التي لم تشهدها البلاد منذ زمن طويل.
Elmadani@batelco.com.bh
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين