قد يحمل العام الجديد أخبارا غير سارة للملكية التايلاندية العريقة في ظل الإنقسام الحالي غير المسبوق بين فئات الشعب حول ديمومتها وصلاحياتها وامتيازاتها ودورها في الشأن العام. صحيح أن هذا الانقسام بدأت ملامحه قبل بضع سنوات، إلا أن الصحيح أيضا هو أنه لم يلاحظ بشكل صريح وواضح كما هو اليوم.
يدور النزاع في تايلاند بين فريق ــ أغلبهم من كبار السن المخضرمين الذين عاشوا حياتهم في عهد الملك السابق الذي ضعفت قبضته على الأمور مع تقدمه في السن ــ وفريق تنتمي غالبيته إلى فئة الشباب وطلبة المدارس والجامعات من أولئك المشبعين بأفكار التغيير الراديكالية. الفريق الأول يعتبر أن الملكية صمام أمان وأن احترامها واجب تفرضه الثقافة البوذية، أما الفريق الثاني فينظر إلى الملكية كنظام لا يستجيب لمتطلبات العصر ويستند في بقائه على دعم مؤسسة عسكرية قمعية وساسة فاسدين.
وفي حال سقوط الملكية التايلاندية، التي تمثلها سلالة تشاكري وهي سلالة ملكية حكمت البلاد بصورة مطلقة من عام 1782 م حتى عام 1932 الذي تحولت فيه إلى نظام ملكي دستوري، فإن البلاد قد تنجر إلى الفوضى وعدم الإستقرار على غرار ما حصل في دول أخرى عدة، راهنت شعوبها على النظام الجمهوري.
لكن من هو المسؤول عما يعانيه المجتمع التايلاندي المسالم من انقسام اليوم؟
هناك ثلاث جهات يمكن تحميلها المسؤولية. أولاها المؤسسة العسكرية والأمنية التي لطالما لجأت إلى الانقلابات العسكرية لإسقاط الحكومات المدنية المنتخبة بحجة حماية التاج والدفاع عن الملكية. وكي نكون منصفين فإن عددا قليلا من تلك الانقلابات كان ضروريا لحماية أمن الوطن والمواطن ضد تيارات اليسار الديماغوجي والفوضى والعنف، ومما قيل في هذا السياق أن القصر ــ في عهد الملك الراحل “بوميبون أدونياديت” ــ هندس بعض الانقلابات مع كبار جنرالات البلاد كي يؤمن للبلاد مواصلة طريقها في النمو والإزدهار، ويحميها من سفسطة ومشاحنات نواب الشعب المنتخبين من ذوي الأجندات الشخصية المتعارضة.
الجهة الثانية التي تتحمل المسؤولية هي رئيس الوزراء الأسبق “تاكسين شيناواترا” رجل الشرطة الذي صعد سريعا في ميدان المال والأعمال، ومنه تسلق إلى السلطة رئيسا للحكومة في عام 2001، قبل أن يطيح به الجيش عام 2006. ويعد شيناواترا أول من بذر بذور المعارضة ضد الملكية بتهييج بعض فئات الشعب، ولا سيما الفئات الفقيرة، ودفعهم نحو الإصطدام مع مؤيدي الملكية والشرعية، تحقيقا لطموحات شخصية. وعلى الرغم من خروجه من المشهد السياسي ومغادرته البلاد، إلا أن ظل يعمل من الخارج لتوتير الأوضاع داخل بلده، مستخدما في ذلك ثروته الطائلة.
أما الجهة الثالثة فهي ملك البلاد الحالي “ماها فاجيرالونجكورن”، الذي أعطى مبررا إضافيا لخصوم الملكية للمضي قدما في أنشطتهم الداعية للتغيير، فمنذ أن كان وليا للعهد تشكلت حوله آراء سلبية قيل معها أن خلافته لوالده، الذي كان مهابا ومحبوبا وملتزما بالتقاليد البوذية والأسرية، سوف يفضي إلى تضاؤل مكانة الملكية، كونه مزواجا ونرجسيا ومتسلطا وعاشقا للبهرجة والأسفار وبعيدا عن شعبه أي على العكس من والده الذي يذكر له التايلانديون تواصله الدائم معهم عبر جولاته الميدانية، والتزامه بالتقاليد الأسرية (تزوج مرة واحدة فقط)، وكراهيته للابتعاد عن وطنه (لم يسافر إلى الخارج سوى مرتين)، وانشغاله بهوايات أدبية وفنية رفيعة مثل تأليف الروايات والمقطوعات الموسيقية والتصوير الفوتوغرافي.
والحقيقة أن ما تنبأ به المراقبون يحدث اليوم فعلا. إذ لم يسبق في تاريخ الملكية في تايلاند أن تجرأ الناس على السخرية من الملك علانية في بلد كان مثل هذا الأمر فيه يعد من المحرمات بموجب الدستور ويسجن صاحبه مدى الحياة، دعك من اصرارهم على اعتراض موكبه الملكي أينما ذهب، وتجمعهم للتظاهر أمام المؤسسات التي يملك فيها حصصا مثل « بنك سيام »، أو أمام السفارة الألمانية كونها سفارة البلد الذي يمضي فيه الملك معظم أوقاته. ولعل ما زاد من سخط الفئات الشبابية على الملك ماها فاجيرالونجكورن أنه طالب بإجراء تغيير في دستور 2017 يتيح له أن يحكم تايلاند وهو مقيم في الخارج، وتغيير آخر يمنع شقيقته المحبوبة جماهيريا من تولي أي منصب رسمي، وتغيير ثالث يجعله مهيمنا على ثروات الأسرة المالكة.
على أنه من الانصاف القول أن بعض المتظاهرين المستائين من الملك الحالي ــ ربما بضغط من أسرهم ــ لا يستهدفون إلغاء النظام الملكي بقدر ما يسعون إلى إصلاحه واخضاعه للدستور ودمقرطة البلاد ووضع حد لتغول المؤسسة العسكرية التي تحكم البلاد منذ عام 2014 برئاسة الجنرال “برايوت تشان أوشا”، وصياغة دستور بديل لذلك الذي صاغه العسكر عام 2017، بينما البعض الآخر منهم يحلم بما هو أكثر من ذلك بكثير، بمعنى أنه يرى في الحركة الاحتجاجية التي بدأت في يوليو 2020 ثم توقفت مؤقتا بسبب جائجة كورونا قبل ان تستأنف زخمها في أكتوبر فرصة تاريخية لتجسيد السيادة في الشعب بدلا من الملك.
أما الفئات المحافظة من التايلانديين الذين يعتبرون الملك أحد الأركان الثلاثة للمملكة إلى جانب الأمة والدين، فيتهمون جهات أجنبية بالوقوف خلف ما يحدث، ويطالبون الحكومة بقطع دابرها من خلال فرض عقوبات إجتماعية على من يتعاون معها مثل الحرمان من الوظائف أو الطرد من الجامعات والمدارس، بل طالبوا أيضا الأسر بالتبرؤ من أبنائها المتعاونين مع الأجنبي الكاره لإستقرار البلاد.
aaaelmadani@gmail.com
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي من البحرين