بعيدا عما قيل ويقال ان واشنطون تعمدت، بانسحابها السريع والعشوائي من أفغانستان، أن تعيد حركة طالبان الإرهابية إلى السلطة في كابول كي تعمل كمخلب قط ضد الصين ومشاريعها، نجد أن واحدة من أكثر الدول المتضررة مما يحدث في هذه البلاد من تطورات متسارعة هي روسيا الإتحادية.
صحيح أن موسكو لن تتضرر مباشرة من عودة الطالبانيين إلى الحكم. لكن الصحيح أيضا هو أن أضرارا جسيمة سوف تلحق بالكيانات الدائرة في فلكها من تلك التي كانت جزءا من أراضي الإتحاد السوفيتي السابق وأصبحت اليوم الحديقة الاستراتيجية الخلفية للإتحاد الروسي، والرقم المهم للمخطط الروسي لتشكيل “الإتحاد اليوروآسيوي” على غرار الإتحاد الأوروبي.
ونعني بهذه الكيانات جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية التي تتشارك مع أفغانستان في الحدود مثل طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان، خصوصا وأن الميليشيات الطالبانية سارعت، خلال اجتياحاتها الأخيرة للمدن والولايات الأفغانية الواقعة تحت سيطرة حكومة كابول الشرعية، إلى إحكام سيطرتها على المعابر الحدودية المؤدية إلى هذه الدول المجاورة.
ولعل من نافلة القول إن هذا التطور وما قد يتبعه بات يقلق قادة الكرملين أمنيا واستراتيجيا، لأن أي تغلغل طالباني إلى جمهوريات آسيا الوسطى، سواء أكان تغلغلا عسكريا او تغلغلا فكريا أو في صورة مساعدة لبقايا تنظيم « داعش » التي لا تزال متوارية في آسيا الوسطى (« فصيل خراسان » على سبيل المثال) يعني إحتمال امتداده إلى الجمهوريات الروسية المسلمة. ناهيك عن أن ذلك التغلغل ــ إذا ما حدث ــ سوف يفرض على منظمة الأمن الجماعي (تأسست عام 1992 بموجب معاهدة طشقند من روسيا ومعظم الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفيتي)، التي تشبه في أهدافها منظمة الناتو أن تفعّل أحد أهم موادها وهي المادة القائلة “إن أي اعتداء على بلد عضو يعد اعتداء على بقية الأعضاء ويستوجب الرد”.
وهنا قد تجد موسكو نفسها مضطرة مرة أخرى إلى دخول المستنقع الذي خرجت منه بتكلفة عالية في الثمانينات وخرج منه الأمريكان مؤخرا دون تحقيق أي نتائج.
كل هذه العوامل والاحتمالات والتوقعات، ومن أجل تجنب سيناريوهات غير مرغوب فيها روسيا واقليميا، فرضت على موسكو أن تستقبل في التاسع من يوليو الجاري وفدا طالبانيا بقيادة الملا عبداللطيف منصور بهدف الاتفاق على نقاط محددة حول المصالح الروسية في جمهوريات آسيا الوسطى، وأمن الأخيرة متخلية بذلك عن تصنيفها للطالبانيين كحركة إرهابية. فما يهم موسكو بالدرجة الأولى ليس مآلات الأوضاع الداخلية في أفغانستان وإنما عدم التعرض لنفوذها السياسي والعسكري ومشاريعها الإقتصادية والنفطية في منطقة آسيا الوسطى.
والمعلوم حتى الآن ان حركة طالبان تحاول أن تقدم نفسها للعالم بوجه جديد مختلف عن وجهها القبيح زمن مؤسسها وقائدها المتشدد السابق الملا محمد عمر. وهذا ما حاولته خلال مفاوضاتها مع الروس مؤخرا. غير أن موسكو ــ بحكم تجاربها السابقة مع الحركة ــ غير مطمئنة تماما وتخشى الخديعة. ولهذا فهي حذرة ومتأهبة لجميع الإحتمالات بدليل قيامها بوضع قاعدتها العسكرية في طاجيكستان (من أكبر القواعد الروسية في الخارج وتضم نحو 7000 مقاتل مدعوم بنحو مائة دبابة ثقيلة وثماني مروحيات ومئات الصواريخ وست طائرات مقاتلة حديثة) على أهبة الإستعداد، وتقديمها وعدا قاطعا للرئيس الطاجيكي “إمام علي رحمانوف” بدعم حكومته عسكريا وأمنيا. خصوصا بعد أن عبر أكثر من ألف عنصر من قوات حكومة كابول الشرعية الحدود إلى داخل طاجيكستان هربا من ملاحقة الميليشيات الطالبانية، وهو ما جعل حكومة « دوشنبه » تستدعي 20 ألفا من قوات الإحتياط.
وإذا كانت الشكوك تساور موسكو من سياسات وتوجهات طالبان، فإن « دوشنبه » هي الأخرى قلقة من مدى إلتزام موسكو بوعودها لجهة نجدتها وحمايتها من الطالبانيين! حيث لا تزال طريقة تصرف الروس حيال قضية “ناكورنو كااراباخ” بين آذربيجان وأرمينيا ماثلة أمامها، وإنْ كانت تلك قضية أخرى بين حليفتين لموسكو كان من الصعب على الأخيرة المفاضلة بينهما، على حين أنه لا مفاضلة بين دولة حليفة (طاجيكستان) وجماعة معادية (طالبان). خصوصا إذا ما أخذنا في الإعتبار إدراك الكرملين لنظرية رائجة مفادها أن واشنطون تعمدت إحداث فوضى أمنية في أفغانستان مع إجلاء قواتها منها كي تمتد تلك الفوضى إلى مناطق النفوذ الروسي في آسيا الوسطى وبما يجعل الروس منشغلين بتداعياتها على أمنهم وأمن حلفائهم.
ومن الأمور الأخرى التي تخشاها موسكو أيضا محاولة تركيا إيجاد موطيء قدم قوي لها في أفغانستان عبر تقديم الدعم للطالبانيين كي يعيدوا تأسيس دولتهم على أنقاض نظام الرئيس أشرف غني. فعلى الرغم من التعاون والتفاهم الظاهري بين موسكو وأنقرة، إلا ان هناك قضايا خلافية بين الطرفين أبرزها الصراع على النفوذ في منطقة آسيا الوسطى. التي تعتبرها موسكو ساحة نفوذ خاصة بها، فيما تعتبرها أنقرة امتدادا تاريخيا لها بحكم الجوار واللغة والدين والثقافة.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي