(الصورة: « ثورة الميدان” الأوكرانية)
عُرفت الآلة الدعائية للقوى الولائية العراقية (المتحالفة مع إيران وتتبع عموماً منظومة ولاية الفقيه الإيرانية) بضعفها المنطقي في تفسير الظواهر والأشياء، رغم شراستها الإعلامية، تحريضاً وشيطنةً، ضد الذين تختلف معهم. لا تختلف هذه الآلة في ضعف تفسيراتها وشراسة سلوكها الإعلامي عن نظيرتها في روسيا البوتينية. فالاثنتان تشتركان في ولعهما بالتفسيرات المؤامراتية وتشويه الحقائق وشيطنة الخصوم.
يظهر أحد الأمثلة على هذا التشابه الوثيق بين الاثنين في أسلوب التعاطي مع الاحتجاجات الشعبية في أوكرانيا، أو ما عُرف بانتفاضة الميدان في 2013 – 2014 والاحتجاجات العراقية المعروفة باحتجاج تشرين في 2019 – 2020.
التشابه بين الاحتجاجَين، الأوكراني والعراقي كبير، وكذلك السعي الحثيث لشيطنتهما، وكأن البوتينيين والولائيين يتعلمون في الصف الدراسي نفسه.
بدأت الاحتجاجات الأوكرانية، المعروفة باسمي “ثورة الميدان” و”ثورة الكرامة” في تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 واستمرت ثلاثة أشهر حتى شباط (فبراير) 2014. كانت شرارتها إعلان الرئيس الأوكراني السابق، فيكتور يانوكوفيتش، رفضه التوقيع على اتفاقية الشراكة بين أوكرانيا والاتحاد الأوروبي.
تعتبر اتفاقية الشراكة خطوةً أساسية لدخول أوكرانيا مستقبلاً في الاتحاد الأوروبي، إذ تهدف الى توحيد الكثير من القوانين والإجراءات الأوكرانية، خصوصاً في الجوانب الاقتصادية والاستهلاكية، كي تتسق مع المعايير الأوروبية وتفسح المجال لأوكرانيا للحصول على أموال استثمار أوروبية. بدلاً من ذلك، كانت رغبة الرئيس يانوكوفيتش، القريب من موسكو، هي إدخال بلاده في “الاتحاد الاقتصادي الأورو-آسيوي”، وهي المنظمة المنافسة للاتحاد الأوروبي التي أنشأتها روسيا في التسعينات، وتهيمن هي عليها، وتضم دولاً كانت جزءاً من الاتحاد السوفياتي السابق.
لكن كانت هناك مظالم أعمق وأوسع سبقت إعلان يانوكوفيتش رفضه التوقيع على اتفاقية الشراكة، وأهمها الفساد المريع الذي انتشر على نحو غير مسبوق في البلاد بدءاً بالمقربين من الرئيس، نزولاً إلى مؤسسات الدولة العادية كالمدارس والمستشفيات والدوائر الأخرى، إذ أصبحت الرشوة فيها عادية لحصول المواطنين على الخدمات الروتينية. كان توقيع اتفاقية الشراكة التي كانت تسعى إليها أوكرانيا نحو عقدين من الزمن سيقلل الكثير من هذا الفساد.
بدأت الاحتجاجات في ساحة الاستقلال في كييف، وقادها ناشطو المجتمع المدني الأوكراني ودعمها إعلاميون وفاعلون مؤثرون في مواقع التواصل الاجتماعي. كان رد السلطة ممارسة القمع ضد المحتجين عبر « القوات الخاصة » في وزارة الداخلية المسماة بـ”البيركوت” السيئة السمعة، وفي ما بعد، إصدار قوانين قمعية تحد من حرية التعبير لمنع الاحتجاج من الانتشار. لكن، كما حدث في الاحتجاجات العراقية، مع تصاعد القمع الأمني الأوكراني، كان الاحتجاج يتسع وتزداد عزيمة المحتجين. وصلت الاحتجاجات الى مرحلتها الأشد بعد ثلاثة أشهر، في يومي 20 و21 شباط، عندما فتحت قوات “البيركوت” النار على المحتجين وقتلت نحو 100 منهم، على الأكثر استجابة لضغوط روسية متواصلة باستخدام الحزم ضد المحتجين وسحق الاحتجاج. سقط أغلب القتلى برصاصات قنص “البيركوت” في الرأس والصدر (شبيه بما حدث في الأيام الأولى من الاحتجاجات العراقية). كان هذا آخر يوم من حكم يانوكوفيتتش، إذ انطلق المحتجون الغاضبون على قتل رفاقهم ليحتلوا المباني الحكومية، وقام البرلمان في اليوم التالي، 22 شباط، بعقد جلسة أقال الرئيسَ فيها. فَرَّ الرجلُ الى روسيا التي اعتبرت الإقالة انقلاباً على الشرعية وتعاملت معه كرئيس شرعي. بعد ذلك بخمسة أيام، غزت روسيا جزيرة القرم وانتزعتها من أوكرانيا، لضمها إليها تالياً، عقب استفتاء صوري. وبعد ذلك بشهر ونصف تقريباً بدأت عمليات مسلحة مدعومة روسياً للسيطرة على منطقتي دونيتسك ولوغانسك في إقليم الدونباس شرق أوكرانيا المحاذي لروسيا.
في يوم إقالته وهروبه من العاصمة كييف، أعطى يانوكوفتيش أوامره لمساعديه للتخلص من نحو 50 ألف وثيقة سرية يمكن أن تدينه. حاول هؤلاء المساعدون التخلص من هذا العدد الكبير من الوثائق برميها في بحيرة، لكن محتجين وناشطين استطاعوا إنقاذها من التلف، لتتحول هذه الوثائق الى أكبر أدلة الإدانة لأسلوب حكم فاسد وقمعي وللرجل الذي قاده واستفاد منه. كان الفساد والمحاباة يفوقان ما تصوره الكثير من الأوكرانيين. تضمن واحدٌ من تفاصيله “الصغيرة” عقداً بقيمة 53 مليون دولار لتزويد البيت الشخصي الفخم للرئيس بثُرَيّات!! كلّف فسادُ الرئيس خزينة الدولة نحو 38 مليار دولار لا تزال السلطات الأوكرانية تتبعها لاستعادة ما يمكنها استعادته منها. كشفت الوثائق أيضاً عمليات تجسس ضد الناشطين ومن تعتبرهم موالين للغرب.
كما في حالة الاحتجاجات العراقية، أنتجت الاحتجاجات الأوكرانية والحوادث المتصلة بها بخصوص سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم وتمددها المسلح في شرق أوكرانيا، ظاهرةً مهمة في المجتمع الأوكراني هي التحول الحاسم في الهوية هناك باتجاه تأكيد النزعة الاستقلالية عن روسيا، وتحدي الأخيرة كضد وخصم يستهدف أوكرانيا، وبالتالي تعميق الحس بالوطنية الأوكرانية. تتضمن بعض أمثلة هذا التأكيد التي أزعجت موسكو كثيراً إلغاءَ تابعية الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية في تشرين الأول (أكتوبر) 2018 للكنيسة الأرثوذكسية الروسية الأم.
كان حدثاً تاريخياً ووطنياً أوكرانياً عندما وقع البطريرك برثلماوس الأول، راعي كنيسة اسطنبول المسكونية، الذي يعتبر الزعيم الروحي للأرثوذكس في العالم، على صك الموافقة على استقلال الكنيسة الأوكرانية. طار الرئيس الأوكراني حينها، فيكتور بورشينكو، إلى اسطنبول ليحضر مراسم التوقيع في الخامس من كانون الثاني (يناير) عام 2019. اتهمت موسكو واشنطن بأنها وراء هذا الانفصال الكنسي، فيما هدد البطريرك كيريل، زعيم كنيسة موسكو التي كانت تتبع لها الكنيسة الأوكرانية على مدى قرون، بانفصال كنيسته، المدعومة من الدولة الروسية، عن كنيسة اسطنبول.
حدث آخر مهم بخصوص تأكيد الوطنية الأوكرانية هو تشريع قانون حماية اللغة الأوكرانية ودعمها الذي صادق عليه البرلمان الأوكراني عام 2019 ويجري تطبيقه على مراحل. يجعل هذا القانون الذي يحظى بتأييد شعبي أوكراني كبير، وغضب روسي رسمي، الأوكرانية اللغةَ الرسمية في دوائر الدولة ومعظم مناحي الحياة العامة (تهيمن اللغة الروسية في المدن، فيما تهيمن اللغة الأوكرانية في الأرياف. يعيش أكثر من ثلثي السكان في المدن). من بين بنوده الكثيرة، يشترط القانون أن تنشر وسائل الإعلام موادها باللغة الأوكرانية، وأن تتم دبلجة أو ترجمة الأفلام والمسلسلات باللغات الأجنبية الى هذه اللغة، وأن يكون ما لا يقل عن نصف الكتب المعروضة في المكتبات باللغة الأوكرانية. لم يمنع القانون اللغة الروسية بل اشترط أن يصاحب نشر مواد باللغة الروسية ترجمة لها بالأوكرانية توازيها في المكان والحجم.
في الرواية الروسية للاحتجاجات الأوكرانية ثم إطاحة يانوكوفيتش وتوقيع الحكومة الموقتة التي تلت رحيله بشهرين اتفاقيةَ الشراكة مع الاتحاد الأوروبي مروراً باستقلال الكنيسة الأوكرانية عن الروسية، وصولاً إلى قانون اللغة، يبرز التفسير المؤامراتي الروسي لكل شيء في أوكرانيا. عبر تصريحات للرئيس فلاديمير بوتين وغيره من الساسة الروس، فضلاً عن الترديد المستمر في الإعلام الروسي، تظهر الاحتجاجات الأوكرانية على أنها مشروع موّله وأداره الغرب لاستهداف روسيا، وأن مؤسسات المجتمع المدني الغربية والمحلية في أوكرانيا هي عبارة عن واجهات مدنية لأعمال استخبارية مهمتها شراء الناشطين الأوكرانيين “السذج” وخداعهم وتدريبهم كي يخربوا بلدهم! بالتالي فإن مهمة روسيا هي إنقاذ الأوكرانيين من فخ الخداع وإيذاء النفس الذي أوقعهم الغرب فيه! استخدم الولائيون العراقيون الأساليب نفسها في تفسير احتجاجات تشرين وشيطنتها، من ضمنها ردهم على أي دعوة لإجراء إصلاحات جدية في العراق أو نقد لدور إيران السلبي فيه.
في أوكرانيا مشكلات كثيرة، ليست كلها مرتبطة بالضرورة بروسيا أو ناتجة من التغول الروسي. يُعدّ تفشي الفساد، ومعظمه بسبب هيمنة الطبقة الأوليغارشية القوية المالكة للثروات، وانتشار الفقر الأهم بينها، خصوصاً في عهد يانوكوفيتش الكارثي بين عامي 2010 و2014 وفشل الحكومات التالية، ومنها حكومة الرئيس الحالي فلودومير زيلينسكي رغم نجاحاتها المحدودة، في الحد من الاثنين.
المشكلة الأخرى التي تعوّق جهود مكافحة الفساد والفقر هي حس الندية والصراع الشديد بين الساسة الأوكرانيين، وصولاً إلى استخدام القضاء وتسييس مؤسسات الدولة من أجل إطاحة الخصوم وبناء النفوذ. قاد كل هذا الى التأخر في إجراء الإصلاحات الجدية المطلوبة. لكن الفائدة الكبرى غير المقصودة من شيء سيئ هي توحّد الأوكرانيين في وجه الاعتداء الروسي. أذاب هذا التوحّد بوجه الخطر المشترك الكثير من الخلافات بين الساسة، ومنح البلد لحظة وضوح نادرة ومهمة بخصوص المستقبل الذي يمكن أن يصنعه لنفسه، بعد تجاوز معضلته الحالية مع روسيا.
في محنتهم الحالية بما تمثله من تحد وجودي لأوكرانيا كبلد وكثقافة، أنجز الأوكرانيون الكثير. عليهم البناء على هذا الإنجاز بإصلاح شؤون دولتهم مستقبلاً.