بدأ الرئيس إيمانويل ماكرون عهده في مايو 2017 مستلهماً النموذج البونابرتي-الديغولي-الميتيراني ومحاولاً استعادة موقع فرنسا في أوروبا والعالم. لكن بعد تجربة عمرها خمسة عشر شهراً يتضح له أن الرهانات “الفلسفية والمثالية” لا تتطابق مع الوقائع الصعبة في زمن الإرباك الاستراتيجي المتمثل حالياً في الأحادية المدوية مع الرئيس دونالد ترامب، والصعود الشعبوي في أوروبا والاندفاع الروسي مع الرئيس فلاديمير بوتين.
أواخر أغسطس من كل عام قبل العودة السياسية والعملية في سبتمبر، تحتضن باريس مؤتمر السفراء الفرنسيين حول العالم ويشكل ذلك مناسبة بامتياز لتحديد أولويات ومهام وتحديات السياسة الخارجية الفرنسية، وانعقد مؤتمر هذا العام تحت عنوان: “التحالفات، القيم والمصالح في عالم اليوم”. وكم كان الفارق كبيرا خلال عام واحد بالنسبة للرئيس إيمانويل ماكرون الذي كان يلمع نجمه في صيف 2017، بعد ثلاثة أشهر على انتخابه المفاجئ، وذلك في ظل مشهد عالمي لا يمنح فيه الرئيس ترامب الأهمية لدوره الخارجي، وتنغمس فيه رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي بشجون “البريكست”، ويضعف فيه موقع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل مما أعطى إيمانويل ماكرون الفرصة ليصبح مرجعا على الساحة الدولية ولو بشكل رمزي. بيد أنه بعد عام بالضبط، تظهر الصورة مختلفة ومغايرة للتمنيات ويبدو ماكرون وحيداً إن في دفاعه عن “النظام العالمي المتعدد القطب”، وإن في سعيه التوصل لإعادة إطلاق مسيرة الاتحاد الأوروبي وبلورة مشاريع إصلاحه.
على الرغم من انتكاسات وعقبات الماضي القريب والحاضر، أبدى الرئيس ايمانويل ماكرون أمام مؤتمر السفراء كل التصميم على الاستمرار في رهاناته عبر “تجديد مقاربات فرنسا الجغرافية والاستراتيجية كي تسهم في التوصل إلى تعريف أهداف واضحة ومحددة تواكب الخطوات الجديدة للمتابعة والتنفيذ”. وفي هذا الإطار يدفع ماكرون دبلوماسييه لحمل راية فرنسا “قوة الوساطة الوسطية” الملتزمة بتحديد “النظام الدولي الجديد” تحت يافطتي التعددية القطبية القوية وأوروبا المتماسكة والصلبة. ويأخذ هذا الطموح مداه نظراً لقراءة تعترف بفشل الجهود الماكرونية مع الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين وفي مواجهة صعود “التطرف والانحراف في أوروبا” وما نتج عن ذلك من “اختلال في ميزان القيم يجمل في طياته بذور هشاشة تحالفات تحرص فرنسا على الحفاظ عليها”.
تلاحظ الأوساط الدبلوماسية الفرنسية بقلق كبير السياسات المتبعة من قبل “الحلفاء” من واشنطن إلى أنقرة مرورا بروما وبودابست، وكذلك سياسات موسكو وبكين وبيونغ يانغ وطهران، وتصل إلى استنتاج مخاطر “زحف التطرف ويقظة القوميات والهويات” مع ما يتركه ذلك من انعكاسات على النظام الدولي المتبلور في القرن الماضي، وعلى صعود القوى الأوتوقراطية على حساب الديمقراطيات.
يأتي ذلك بينما من المقرر أن تستضيف فرنسا في مدينة بياريتز، في أغسطس 2019، قمة الدول الصناعية الكبرى ( مجموعة السبعة). وفي هذا الصدد بدا ماكرون متحمساً من أجل وضع حد لما سماه “هذا المسرح من الظلال والانقسامات التي أضعفتنا أكثر مما جعلتنا نتقدم”، وهو بالطبع يغمز من قناة الإخفاق التام للقمة الأخيرة في كندا وتحول هذا الاجتماع إلى لقاء روتيني غير منتج، ومن هنا سيقترح ماكرون “تجديد الصيغ والطموحات”. لكن ماكرون الذي يستنتج محدودية هامش المناورة الفرنسية في خضم انفراط عملي لعقد “الغرب” كمفهوم سياسي، ها هو يعود إلى التعددية في العالم والبديهيات الاستراتيجية لفرنسا في أفريقيا (وعد برفع المساعدات الإنمائية إلى مليار يورو في 2019) والبحر الأبيض المتوسط حيث أعلن عن الدعوة إلى مؤتمر قمة متوسطية في أوائل صيف 2019 في مرسيليا. في إعادة بعث لكيان “الاتحاد من أجل المتوسط” الذي أطلقه نيكولا ساركوزي في عام 2008 لكنه سرعان ما جمدته تحولات واضطرابات العالم العربي منذ 2011. وعلى عكس سلفه، يقترح ماكرون إشراك ممثلين عن “جميع المجتمعات المدنية” في هذه القمة، والتي ستكون فرصة “للحديث عن الشباب والتبادل الجامعي”. لكن التجارب السابقة وأبرزها مسار برشلونة للشراكة الأوروبية-المتوسطية، واستمرار الانهيارات على الضفة الجنوبية للمتوسط تقيد الطموح الماكروني في هذا المجال ويمكن أن يكون إطاراً بيروقراطياً بالزائد لا أكثر.
ويبرز الزخم في توجهات الرئيس الفرنسي مع إصراره على اتخاذ مبادرات جديدة من خلال بناء “تحالفات جديدة”. وإعادة بناء الاتحاد الأوروبي الذي يريد. أكثر تكاملا وأكثر سيادة. بيد أن الاستغناء عن المظلة الأميركية الاستراتيجية وعن الصلة مع واشنطن أشبه بالمقامرة بالرغم من الإفراط في الأحادية الأميركية لأن البديل غير جاهز ولأن الضعف البنيوي الأوروبي لن يعالج سريعاً. أما الرهان على إعادة الوصل مع روسيا وترتيب تنسيق أو تحالف أوروبي معها فدونه عقبات لا تحصى من أوكرانيا إلى أزمات دولية أخرى وقبل كل شيء طبيعة النظام في موسكو وحساباته الاستراتيجية الخاصة.
وهكذا تبقى الساحة الأوروبية المسرح الرئيسي لاختبار السياسة الخارجية الفرنسية. ولذا قرر ماكرون النزول إلى الميدان والمشاركة الشخصية في الحملة الانتخابية الأوروبية في استحقاق مايو 2019، وخوض المواجهة مع فريق القوميين المتزمتين الرافضين والمشككين بالفكرة الأوروبية من خلال تعويله على أن “أوروبا لا تٌصنع أو يتم الدفاع عنها في بروكسل أو باريس أو برلين، بل عبر نشر أفكارنا ومشاريعنا بلا كلل”. لكن النجاح في المعركة الأوروبية غير مضمون في مواجهة “وطنية” فيكتور أوربان الهنغاري وماتيو سالفيني الإيطالي أو “أنانية وتردد” أنجيلا ميركل.
يجد الرئيس الشاب نفسه ممزقاً بين عدم قدرته على تمرير إصلاحاته الداخلية والأوروبية، وبين حنينه إلى نماذج الإمبراطور نابليون والجنرال القوي ديغول. ومن هنا يستدرك ماكرون ويذهب نحو انتقاد “العولمة الرأسمالية” لتي ولّدت “تركيزًا كبيرًا” للأرباح وانفجارا في عدم المساواة. وذلك على طريقة فرنسوا ميتيران وجاك شيراك. ولذا يركز سيد الأليزيه على تنبهه إلى أن “الهويات العميقة للشعوب في كل مكان في العالم قد عادت إلى الظهور من جديد بخيالاتها التاريخية”. ولا يمكن لفرنسا إلا اعتبار “عودة الشعوب أمر جيد”. وفي هذا اعتراف بأهمية الجذور في عالم يتفكك سياسياً واقتصادياً وبيئياً أمام أنظار ماكرون وأنداده.
khattarwahid@yahoo.fr