الجانب الأوروبي يخشى أن تلوح من جديد كل المخاطر حول إيران والخليج وأمن الطاقة والأمن الإستراتيجي الأوروبي على حد السواء.
أقدم الحرس الثوري الإيراني على خطوة جديدة في مسلسل التصعيد مع واشنطن والذي يمكن أن ينزلق إلى رد أميركي محدود أو مواجهة أوسع حسب تطور الموقف. ومما لا شك فيه أن الرهان الإيراني على الارتباك الأميركي يستند إلى واقع انقسام باقي الكبار أو تفهم بعضهم (الجانب الأوروبي) ودعم بعضهم مباشرة أو بشكل غير مباشر (الصين وروسيا).
وفي هذا السياق تبرز المقاربة الأوروبية الحذرة وغير الفعالة إزاء اختبار القوة بين واشنطن وطهران. وبالفعل كانت القوى المعنية في أوروبا محشورة بين المطرقة الأميركية والسندان الإيراني منذ انسحاب واشنطن الأحادي من اتفاق فيينا. وليس من المؤكد أن ما لم تنجح فيه الدبلوماسية الأوروبية منذ مايو 2018 ستنجح فيه على وقع مسلسل التصعيد خاصة بعد فشل عدة وساطات دولية وإقليمية.
لكن الإصرار الأوروبي على الاستمرار في مساعي خفض التصعيد في المقام الأول، لا يمكنه حجب العجز الأوروبي عن إيجاد وصفة دبلوماسية للخروج من المأزق الذي يترك المشهد مفتوحا على كل الاحتمالات.
بعيدا عن حسابات واشنطن وعن رهانات بكين وموسكو، تبدو حسابات أوروبا مختلفة لأن انعكاسات الحروب في الشرق الأوسط والخليج أخذت تمتد إلى داخل القارة القديمة خاصة لجهتي موجتي الإرهاب واللجوء. ولذلك تمسكت أوروبا بالاتفاق النووي لأنها كانت تعتقد أن إيران ستعود دولة كما باقي الدول وينتهي الهاجس الذي شغل الكثير من الأوروبيين منذ نهاية السبعينات في القرن الماضي.
وبناء على ذلك يخشى الجانب الأوروبي أن تلوح من جديد كل المخاطر حول إيران والخليج وأمن الطاقة والأمن الإستراتيجي الأوروبي على حد السواء. واليوم مع قرع طبول الحرب، يتضح أن الكابوس الذي ظن البعض أنه زال بدأ يبرز من جديد، ويتبين بجلاء أن الاتحاد الأوروبي لم يعتمد سياسة متماسكة إزاء هذا الملف نظرا إلى تضاؤل وزنه الدولي وعدم تمتعه باستقلالية حيال واشنطن وعدم قدرته على بلورة سياسة فاعلة مع طهران التي لم تستجب يوما للطلبات الأوروبية بشأن برنامجها المتعلق بالصواريخ الباليستية أو انخراطها في الأزمات الإقليمية.
في السباق مع الوقت منذ مايو الماضي، وبعد الإنذار الإيراني بالخروج من الاتفاق النووي خلال شهرين (ستنتهي المهلة في 7 يوليو القادم)، تسارع أوروبا الخطى في مبادرات تسعى لتطويق التصعيد ولا تتمكن من تحقيق اختراق يعيد طهران إلى طاولة المفاوضات. ويتساءل مصدر أوروبي عن حصول وقائع التصعيد إبان زيارات الموفدين الدوليين إلى إيران، إذ أتى استهداف خليج عمان إبان وبعد زيارة وزير الخارجية الألماني ورئيس الوزراء الياباني، بينما أتى إسقاط الطائرة المسيرة الأميركية خلال تواجد الموفد الرئاسي الفرنسي إيمانويل بون في طهران. ويؤكد مصدر إيراني مستقل من جهته لعب نظام الحكم في إيران بالنار وممارسة لعبة حافة الهاوية عبر ابتزاز الأوروبيين حول تخصيب اليورانيوم وعبر توجيه الرسائل الحربية بوتيرة متصاعدة إلى واشنطن وحلفائها في الإقليم.
زيادة على التهديد حول “النووي” تضغط إيران على أوروبا عبر ورقتي اللاجئين والمخدرات، ولا يتردد الرئيس حسن روحاني نفسه في استخدام ذلك للترهيب إلى جانب الترغيب كي تحمي أوروبا مصالحها كما يقول. بيد أن الأوساط الأوروبية المتابعة للملف تركز أيضا على مخاطر الفراغ في إيران وانهيار الدولة فيها إذا انفجر الوضع.
وهذه المخاوف لم تكن في حسابات البعض حيال ليبيا وغيرها على سبيل المثال، وهناك من يتناسى -عن قصد- العامل التاريخي في ديمومة الدولة الإيرانية وقدرة نخبها على الإمساك بزمام الأمور. و يتلازم هاجس الفوضى التدميرية ومخاطر نشر الإرهاب وزيادة اللجوء مع شبح الحرب على ضوء التطورات الأخيرة ولا تجد المبادرات الأوروبية أجوبة مقنعة من طهران التي تراهن على لي ذراع واشنطن وإلزامها إما بالعودة إلى اتفاق باراك أوباما أو تخفيض سقف شروط مايك بومبيو.
بعد فشل زيارتي الوزير الألماني والمستشار الرئاسي الفرنسي إلى طهران، وبعد مشاورات فريديريكا موغريني في واشنطن، ينتظر الجانب الأوروبي اجتماع لجنة متابعة الاتفاق النووي في فيينا في الثامن والعشرين من هذا الشهر بحضور روسيا والصين. لكن بالإضافة إلى عدم وجود حوافز أوروبية تقدم إلى طهران وعدم تشغيل آلية الالتفاف الأوروبية على العقوبات الأميركية، يتبين أكثر فأكثر بالنسبة للدبلوماسيين الأوروبيين المتابعين أن بكين وموسكو تسهمان في التعنت الإيراني وربما تراهنان على أن تشتيت القوة الأميركية وعدم وجود سند أوروبي لها وربما إغراق واشنطن في حرب جديدة في الخليج، يمكن لكل ذلك أن يزعزع موقع القوة العظمى الوحيدة لصالح الصعود الصيني والاختراق الروسي داخل النظام الدولي.
تعاني الدبلوماسية الأوروبية ليس فقط من مقاربتها الحذرة ومخاوفها المتعددة فحسب، بل كذلك من عدم وجود رؤية متماسكة للملف، ومن انقسام أخذت تظهر ملامحه مع انحياز بريطاني إلى موقف واشنطن ومع عدم توفر إجماع حيال التدهور بين واشنطن وطهران.
لا يعني إلغاء الضربة الأميركية غداة سقوط الطائرة المسيرة أن الأمور تتجه إلى التهدئة، ومن هنا تزداد المطالبات الأوروبية بضبط النفس دون التعويل على تغيير مجرى الأمور. لكن إذا استمر التصعيد الإيراني سيضيق هامش مناورة الأوروبيين وسيضطرون إلى الاصطفاف خلف واشنطن.