ما جذور العلاقات العربية – الألمانية الحديثة؟ وما الذي مهد للإعجاب العربي بالنازية وهتلر؟
كانت المحاولات العربية في هذا المجال امتداداً لتاريخ من العلاقات التي بدأت في ظل الدولة العثمانية، وامتدت من أواخر القرن التاسع عشر إلى سقوط الدولة بعد هزيمتها مع ألمانيا القيصرية في الحرب العالمية الأولى سنة 1918.
جاءت ألمانيا متأخرة بعض الشيء إلى نادي القوى الأوروبية الصناعية الكبرى، بريطانيا وفرنسا، ولكن ألمانيا سرعان ما تفوقت بعد أن اكتسبت الخبرة اللازمة في المجالين الصناعي والتقني، وبذلت كل ما بوسعها من جهد في سبيل هذا التفوق. وهكذا لحقت بالدول التي سبقتها، وخصوصا بريطانيا وفرنسا، وباتت تنافسهما في الأسواق والصناعات، وفي السعي نحو الاستعمار – في إفريقيا خاصة – وفي الصراع على القوة في أوروبا والعالم.
كانت ألمانيا قبيل نهاية القرن التاسع عشر مجموعة من ولايات وممالك أقواها “بروسيا” Prussia ذات الروح العسكرية الطاغية التي هيمنت على بقية المجموعة، وفي عام 1862 أصبح الداهية بسمارك مستشار “بروسيا”، وبعد جملة مخططات سياسية وحروب تم إعلان وليم الأول إمبراطورا لألمانيا عام 1871، لما يمكن اعتباره كما ذكرنا «الرايخ الثاني»، حتى عام 1934 وبداية ألمانيا النازية. وقد تم اقتسام “بروسيا” بعد هزيمة هتلر بين ألمانيا الشرقية وبولندة والاتحاد السوفياتي، وكانت ألمانيا قد هزمت فرنسا هزيمة منكرة عام 1870، ودخلت ضدها في حرب خاسرة هي الحرب العالمية الأولى التي شكل فيها الألمان والعثمانيون والنمساويون جبهة ضد فرنسا وبريطانيا والروس، وقد استمرت الحرب ما بين 1914 و1918، حيث تدخلت في أواخرها الولايات المتحدة وتم استخدام سلاح الدبابات وبدايات الطيران إلى جانب سقوط أكثر من 320 ألف جندي أميركي في الميادين وغيرها، بين قتيل وجريح. (The Word Almanac, 2017,P.170)
كان النفوذ الألماني في الدولة العثمانية قبل اتحاد ممالكها بقيادة “بروسيا” مقتصراً على ميادين التبشير والثقافة، وإن كان السلطان محمود الثاني قد اعتمد على بعثة عسكرية ألمانية برئاسة «فون مولتكه» Von Moltke عام 1835 لتنظيم الجيش العثماني. وقد شهدت ألمانيا خلال هذا القرن ثورة صناعية سريعة حولتها إلى قوة اقتصادية كبرى، ومما جعل النهج الألماني في التنمية الصناعية مغريا فيما بعد لدول أخرى في المشرق أن الدولة ساهمت في كثير من قطاعاته، ولم تقم ثورتها الصناعية على الاقتصاد الحر وحده، وكان اقتصاد ألمانيا مزيجا وسطا يقع بين الاقتصاد الحر واقتصاد الدولة، وتحكمت الدولة بالأسعار والضرائب الجمركية وغيرها، واستطاعت بانتهاج سياسة الحماية الجمركية أن تحمي صناعاتها وأن تطورها بمعزل عن المنافسة الأجنبية. (د. علي محافظة، العلاقات الألمانية – الفلسطينية، بيروت 1981، ص11)
تزايد الاهتمام العثماني بالتعاون مع ألمانيا بعد هزيمة العثمانيين في حربهم مع روسيا 1877-1878، التي كشفت النقاب عن نقائص خطيرة في الجيش العثماني. ورغبة من السلطان عبدالحميد الثاني في تجنب الاعتماد الكامل على بريطانيا وفرنسا في رفع مستوى القوات المسلحة فضل السلطان الاتجاه نحو ألمانيا، لاسيما بعد سمعتها العسكرية الرفيعة بعد انتصارها على فرنسا في حرب 1870.
طلب «الباب العالي»- أي الدولة العثمانية – في مايو 1880 من السفير الألماني في إسطنبول إرسال بعثة عسكرية ألمانية للإشراف على تنظيم وتدريب القوات العثمانية. وفي نهاية عام 1882 وصلت البعثة العسكرية الألمانية إلى إسطنبول، ومن أفراد هذه البعثة لويس كامب هوفنر Kamphoevener الذي بلغ رتبة ماريشال في الجيش العثماني، وغيره من الضباط الذين تولوا مسؤوليات رفيعة أخرى في الجيش العثماني. ومع الانقلاب العثماني عام 1908 ازداد التعاون العسكري الألماني – العثماني مع تَسلُّم جمعية الاتحاد والترقي السلطة بعد إزاحة السلطان، وتقرر إرسال بعثة عسكرية ألمانية إلى إسطنبول ورافق التعاون العسكري تعاون سياسي واقتصادي وازداد اهتمام ألمانيا بمستقبل الدولة العثمانية.
كانت الدولة العثمانية منذ فترة طويلة، تواصل التدهور السياسي والعسكري وعلى كل صعيد، وحاول الألمان وضع أفضل الاحتمالات بالنسبة لمصالح ألمانيا في هذه العلاقة. ويقول د. محافظة: «وُجِدت بين المسؤولين الألمان وجهات نظر ثلاث حول هذا الموضوع، تقول وجهة النظر الأولى إن وجود دولة عثمانية قوية قادرة على الصمود في وجه الأطماع الأوروبية من أفضل الضمانات للتوسع الاقتصادي الألماني في الأناضول وآسيا العربية. وتقول وجهة النظر الثانية أن المصير النهائي للدولة العثمانية أن تصبح محمية ألمانية، أما وجهة النظر الثالثة فتقول إن إنقاذ ألمانيا لا يتم إلا بتحرير البحار من الهيمنة البريطانية، وإن الهيمنة الألمانية على الدول العثمانية أمر ثانوي، ومرتبط بهيمنة ألمانيا على البحار». (ص 15)
واضطرت الدولة العثمانية إلى الاستدانة من ألمانيا ابتداء من منتصف القرن التاسع عشر لمواجهة الأزمات المالية المتوالية والحروب العديدة التي خاضتها مع الدول الأوروبية المجاورة ونفقات تنظيم وتسليح قواتها العسكرية، وقد أبرمت الحكومة العثمانية أول قرض أجنبي بعد بداية «حرب الحروب» سنة 1854، من البنوك الإنكليزية والفرنسية وقدره ثلاثة ملايين جنيه إسترليني – 2.5 مليون ليرة عثمانية ذهباً بفائدة 6% تلاه قرض ثان بعد عام واحد مع مؤسسة روتشيلد ومقداره 5.65 ملايين ليرة عثمانية ذهباً بفائدة 4%.
ومما يلفت النظر أن ضمانة هذا القرض كانت الضرائب الواردة للدولة العثمانية من مصر والرسوم الجمركية الواردة من ولاية سورية ومن أزمير التركية. وأثقلت قروض أخرى كاهل الدولة العثمانية بعد أن تورطت في الديون وعجزت عن التسديد واضطرت إلى إعلان إفلاسها عام 1875.
لعبت ألمانيا دوراً هاماً في إنقاذ الدولة العثمانية واستمرار وجودها، ويقول د. محافظة إن العثمانيين رحبوا «بدخول الألمان ميدان التنافس مع الدول الأوروبية الأخرى، وبخاصة بعد المساعدة القيمة التي قدمتها ألمانيا للدولة العثمانية عام 1897 أثناء حربها مع اليونان، فقد كان الانتصار العثماني نجاحا للصناعة العسكرية الألمانية وللمستشارين وللمدربين العسكريين الألمان وللسكك الحديدية التي بناها الألمان والتي لعبت دوراً مهماً في هذه الحرب، ومنذئذ أصبحت ألمانيا تحتكر تجارة الأسلحة والمعدات والتجهيزات العسكرية مع الدولة العثمانية، وظهرت ألمانيا في عيون العثمانيين المنقذة للدولة من التفكك والانهيار. وتقدمت الشركات الألمانية في مطلع العام التالي إلى الدولة العثمانية بمشروع بناء سكة حديد تربط أنقرة أو قونية ببغداد بهدف دعم السلطة العثمانية في الولايات العربية» (العلاقات ص 19).
وتعززت العلاقات بين ألمانيا والدولة العثمانية بالزيارة التي قام بها فيلهلم الثاني II Wilhelm قيصر ألمانيا للعاصمة العثمانية وسورية وفلسطين عام 1898، فخاطب مشاعر المسلمين، ولم يتردد القيصر الألماني في أن يعلن في الخطاب الذي ألقاه في ساحة الجامع الأموي بدمشق: «لتتحقق أمنية جلالة السلطان وأمنية الثلاثمائة مليون مسلم الذين يعيشون مبعثرين على هذه الأرض، أن يروا فيه خليفة لهم، وإننا نؤكد أن القيصر الألماني سيكون في جميع الأوقات صديقهم».
ويضيف المؤرخ أن هذه الزيارة أسفرت عن منح الشركات الألمانية امتياز بناء سكة حديد بغداد التي كان لبريطانيا موقف مضاد معروف منها، كما رأت في المشروع «تثبيتاً للنفوذ الألماني في الدولة العثمانية وهجوما اقتصاديا وسياسيا ألمانيا على منطقة النفوذ البريطانية في الخليج وسواحل شبه الجزيرة العربية الشرقية والجنوبية، وبعد اتفاق مع الممولين الفرنسيين صدرت إرادة السلطان عبدالحميد عام 1902 بمنح شركة سكة حديد الأناضول الألمانية امتياز مد سكة حديد بغداد، كما تعاون البنك العثماني مع الدويتش بانك في إنشاء الشركات في الدولة العثمانية ومنها الاتحاد العثماني Union Ottomane. ومنذ عام 1896 أنشئ بنك فلسطين الألماني في برلين Die Deutshe Palaestino bank، وفتحت له فروع في القدس ويافا وحيفا وبيروت ودمشق وطرابلس الشام.
يقول المؤرخ د. محافظة متحدثاً عن آخر وأخطر مغامرات الدولة العثمانية في علاقتها مع القيصرية الألمانية: «وبلغ النفوذ الألماني في الدولة العثمانية ذروته بإبرام تحالف عسكري سري بين الدولتين في الثاني من أغسطس عام 1914، فكان تتويجاً للجهود التي بذلتها ألمانيا منذ مطلع الثمانينيات من القرن التاسع عشر. وبذلك ضمنت وقوف الدولة العثمانية إلى جانبها في حالة قيام حرب عالمية، كما ضمنت ضرب المصالح البريطانية والفرنسية والروسية (دول الوفاق الودي) في الشرق، واعتقدت أنها سوف تشغل القوات الروسية في منطقتي البحر الأسود والقفقاس والقوات البريطانية في مصر وتعطيل الملاحة في قناة السويس، الشريان المهم للمواصلات البريطانية مع الشرقين الأوسط والأقصى في حالة قيام حرب مقبلة، وعلقت آمالاً على كسب ود العالم الإسلامي، وبخاصة عند إعلان السلطان العثماني الجهاد على بريطانيا وفرنسا، فلما اندلعت الحرب وقفت الدولة العثمانية إلى جانب ألمانيا وتحملت نتائج تلك المغامرة الخطيرة التي قطعت أوصالها وقضت عليها». (العلاقات ص21).
ومن الذين درسوا هذه المرحلة بعمق الباحث الفرنسي فرانسوا جورجيو في كتاب من جزأين عن تاريخ الدولة العثمانية – بإشراف روبير مانتران وترجمة بشير السباعي ويشرح في الفصل 13، ج2 التحولات التي أجراها الألمان على الجيش العثماني، ويقول: «حتى ثمانينيات القرن التاسع عشر كان الجيش العثماني يأخذ عتاده وأساليبه من بلدان أوروبية مختلفة، بريطانيا العظمى، فرنسا، بروسيا إلخ، وفي عهد عبد الحميد تميل ألمانيا غيلوم الثاني إلى اكتساب نوع من الاحتكار في الجيش العثماني، فهي تكفل إعداد الضباط الأتراك وتقدم المدربين العسكريين وتسلح الجيش بالأسلحة والذخيرة، بل إنها تلهم هيئة الأركان العثمانية باستراتيجيتها، وهي استراتيجية «بروسية قارية» تشدد على القيمة «الإقليمية» للإمبراطورية العثمانية بأكثر مما تشدد على أبعادها البحرية. ومن جراء ذلك فإن الجيش البري العثماني سوف يكون موضع اهتمام أكثر بكثير من البحرية؛ سفن حربية متآكلة على أرصفة الموانئ، ذلك هو المظهر الكاريكاتوري إلى حد ما الذي سوف يبدو في الأسطول نحو أواخر عهد عبدالحميد، وأيا كان الأمر فإن ما نشهده هو نوع من (أَلْمَنة) الجيش العثماني» (ص223 – 224).
Histoire De L›Empire Ottoman, Robert Mantran, 1989
الترجمة العربية: القاهرة، 1992