إذا كان الارتباك الأميركي يمنح أنقرة هامشاً من المناورة، لا يمكن لتركيا اللعب كثيرا على الخط مع روسيا التي لها علاقات تاريخية ودينية حميمة مع اليونان.
نشهد تصاعدا مضطرداً في التوتر بين تركيا واليونان الجارين اللذين تميزت علاقاتهما بالنزاعات المزمنة، بلغ حد التهديد بالحرب والانزلاق نحو الخيار العسكري. تفاقمت الأمور بعد أيام على إعلان أنقرة عزمها البدء بالتنقيب عن النفط والغاز في مناطق متنازع عليها قرب جزيرة كريت، بموجب مذكرة التفاهم التي وقعت عليها تركيا وحكومة الوفاق الليبية. وأدى ذلك لإطلاق سجال بعد تصريح لوزير الدفاع اليوناني نيكوس بانايوتوبولوس لم يستبعد فيه “العمل العسكري ضد تركيا” وذلك في سبيل حماية حقوقها السيادية.
واستدعى ذلك رداً من الرئيس التركي ووزير خارجيته. وبالرغم من التدهور في الميدان الليبي وامتداده إلى شرق المتوسط، في سياق الصراعات من أجل الطاقة والنفوذ، لا يرجح الانزلاق إلى الحرب الثنائية بين أثينا وأنقرة، بل في استمرار المبارزة التقليدية بينهما تحت سقف معين. لكن الاصطفاف الجاري بين محورين دوليين – إقليميين في ملفي الطاقة (لناحية التنقيب والاستثمارات ومرور الأنابيب) وتعيين الحدود والوضع الليبي، يقود إلى التخوف من تحول استعراضات القوة إلى مواجهات تخرج عن السيطرة.
تربو الخلافات التركية – اليونانية إلى قرنين من الزمن حول الحدود البرية والبحرية، والمياه الإقليمية، والمجال الجوي، وملف جزيرة قبرص. وفي الأشهر الأخيرة احتدم التوتر مع إضافة ملفات خلافية جديدة تتعلق بالتنقيب عن النفط والغاز في البحر المتوسط، وملف اللاجئين، واستضافة اليونان “معارضين أتراكا”، والخلاف حول “آيا صوفيا” (مع تعهد السلطان الجديد بتحويل المتحف إلى مسجد) ، والنزاع الإقليمي في المنطقة بشكل عام وليبيا بشكل خاص. ونظراً لتطورات الأيام الأخيرة أفاد مصدر أوروبي في بروكسل أن “تعدي تركيا على سيادة اليونان بإعلانها أنها ستبدأ التنقيب عن النفط والغاز داخل الحدود البحرية المتنازع عليها مع اليونان في شرق البحر الأبيض المتوسط، يمكن أن يشعل حرباً على التخوم الجنوبية لأوروبا”.
ويبدو أن عدم قدرة الاتحاد الأوروبي على ثني تركيا عن التنقيب قبالة شواطئ قبرص بالرغم من فرض عقوبات عليها، دفع بأنقرة للذهاب بعيداً والاستمرار في عمليات التنقيب في مناطق متنازع عليها مع قبرص واليونان، نتيجة إدراكها أن تضامن الاتحاد الأوروبي مع الدولتين المنتميتين إليه ليس كافيا وتستسهل التحدي لأن هناك ألمانيا التي تراعيها دوماً وهناك اللاموقف من قبل العديد من الأعضاء الآخرين في زمن الكسوف الأوروبي على الصعيد الدولي، ولأن تركيا تستخدم “أوراقاً رابحة” في التفاوض أو التجاذب مع أوروبا بخصوص اللاجئين والهجرة غير الشرعية والخيار الروسي.
بالرغم من استخدام موانئها مصباً أو ممرا للطاقة الآتية من روسيا والعراق وإيران، وتمتعها بثروة هائلة من المياه العذبة، عانت الميزانية التركية من عدم وجود مصادر محلية للمحروقات. وبرز ذلك بمثابة “العقدة” بعد الاكتشافات الكبرى للغاز شرقي الحوض المتوسطي، وقيام منتدى غاز شرق المتوسط في 2015 بناء على مبادرة مصر والتي ضمت الأردن وإسرائيل وقبرص واليونان وإيطاليا وفرنسا. وشعور العزلة أو الإقصاء الذي راود أنقرة حينها لم يكن بسبب إرادة المؤسسين، بل بسبب خيارات أردوغان التي قطعت مع مصر منذ 2013 وأقلقت الجارين اليوناني والقبرصي.
وإذا كانت اليونان وقبرص ومصر تنطلق من باب الدفاع عن سيادتها وعن حقوقها شرق المتوسط، فإن المقاربة التركية تعتمد على نظرية “الهجوم الوقائي” في العلاقات الدولية من دون مراعاة أحكام القانون الدولي بحذافيرها خاصة في ما يتعلق بالمياه الإقليمية وتعيين الحدود والمناطق الاقتصادية الخالصة.
في 2 سبتمبر 2019، أبرز الرئيس التركي خارطة غير تقليدية، كُتِب عليها اسم “الوطن الأزرق”، محددة السواحل التي تعتبرها تركيا مِلْكا لها في البحر المتوسط وبحر إيجة، وأظهرت الخارطة “وطن تركيا الأزرق” ممتدا حتى الخط الوسيط لبحر إيجة محاطا بمجموعة من الجزر اليونانية، كما تعين بشكل مستهجن تبعية مساحة كبيرة من سواحل شرق المتوسط للسيطرة التركية. ولم تكن هذه أول إشارة من قِبل تركيا ففي كتابه الشهير “العمق الاستراتيجي” الصادر عام 2001، تحدث رئيس الوزراء التركي السابق أحمد داود أوغلو عن أهمية السيطرة على البحار مُذكِّرا أن بداية النهاية للإمبراطورية العثمانية كانت بسبب فقدانها السيطرة على البحار، لكن فكرة “الوطن الأزرق” بشكلها الحالي تنسب إلى الأدميرال رمضان جيم غوردينيز الذي طرح الفكرة لأول مرة في يونيو 2006، وتضمنت رؤية لفرض سيادة تركيا على مساحات كبيرة من البحر المتوسط وبحر إيجة والبحر الأسود.
من وجهة نظر غوردينيز، فإن تركيا “التي كانت ضحية تقسيم حدودها البرية أعقاب معاهدة ‘سيفر’ عام 1920، تتعرض حالياً لمعاهدة ‘سيفر’ ثانية في البحر”، حيث تتهم خصومها بالسعي لتقليص نفوذ أنقرة البحري وحصره في شريط مائي ضيق حول سواحلها. ولذا قررت تركيا “فك عزلتها” كما يقول أحد خبرائها وتطبيق رؤيتها للوطن الأزرق عبر توقيع اتفاقية لتعيين الحدود البحرية مع حكومة الوفاق الوطني الليبية.
ومنذ نهاية 2019 بدأ أردوغان هجومه الإقليمي المضاد بفضل ضوء برتقالي أميركي نتيجة قلق واشنطن من التمركز الروسي في الشرق الليبي ولأن البعض في واشنطن يخشى من انزلاق تركي نحو روسيا.
في مواجهة التمدد التركي، تلعب أثينا دوراً رئيسياً، ومن هنا تأتي قيادتها للعملية الأوروبية “إيريني” المولجة بتطبيق حظر تصدير الأسلحة إلى ليبيا ومنع تهريب النفط، وفي نفس السياق جرى الإعلان عن توصل اليونان وإيطاليا لاتفاق تحديد حدودهما البحرية، مما يشكل تصديا للطموحات التركية قبالة السواحل الليبية.
ومن الواضح أن اليونان تستند إلى تحالف متين مع فرنسا ومصر وقبرص. وإذا كان الارتباك الأميركي يمنح أنقرة هامشاً من المناورة، لا يمكن لتركيا اللعب كثيرا على الخط مع روسيا التي لها علاقات تاريخية ودينية حميمة مع اليونان. هكذا ستستمر المبارزة بين الجارين اللدودين في خضم معمعة جيواستراتيجية لتحديد الأحجام في حوض البحر الأبيض المتوسط الذي كان يوماً قلب العالم القديم، ويعد اليوم من بين مسارح إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية والدولية.
khattarwahid@yahoo.fr