ربما لم تتوقع قيادة “حزب الله” وأمينها العام ردة الفعل التي حصلت جراء الإفراج عن عامر الفاخوري، آمر سجن الخيام في زمن الاحتلال الإسرائيلي للجنوب. لكن من يحتفظ بذاكرته يعرف أن هذه التجربة ليست الأولى، لجهة التسامح مع العملاء، إذ سبقتها تجارب مماثلة، ولم تتلق أي ردة فعل من الجمهور: مثل توزير إيلي حبيقة وصولا إلى قضية فايز كرم الذي أفرج عنه وأعيد الاعتبار له من حليف الحزب وشريكه في السلطة وغيرها كثير…
كان طبيعياً أن ينبري حسن نصرالله لمحاولة احتواء الجو الاعتراضي الذي ساد بين جمهوره الغاضب. هذا الجمهور الذي استفاق على تواطؤ مكشوف لقيادة الحزب في قضية الفاخوري ولم يستوعبه، رغم أنه لم يسأل نفسه من قبل كيف ولماذا جيء به أصلا! وهل يمكن أن يُحاكَم ويُبرأ ويخرج دون علم الحزب؟
الجمهور غاضب، لقناعته أنه أشرف البشر وفوق القوانين والدول والمجتمعات، وأن قيادته منزهة ولا يمكن الضغط عليها لتقديم التنازلات أو الانخراط في تسويات تخدش المبادئ والقناعات. في المقابل، غضبت القيادة من ردة فعل جمهورها لأنه شكك في عصمتها! وجاءهم الخطاب ليعيدهم إلى صوابهم: نحن فوق المحاسبة، لا تنتقدوا وعليكم الوثوق بنا “عالعمياني”.
وبالمناسبة نفسها، لا بأس من بث رسائل مبطنة تهيئ الجمهور، وتقمع مسبقا ردات فعله المنتظرة، تحسبا للقادم من التنازلات التي ستفرض المزيد من الهفوات والثغرات في الأداء. والوصفة: اسألوا ونشرح لكم. ونقطة عالسطر.
وفي خضم هذه الخضة المزلزلة جاء اغتيال انطوان الحايك، معاون الفاخوري، في دكانه في قريته المجاورة لصيدا؛ هو الذي حوكم وسجن وأفرج عنه وانخرط في القوى الأمنية الرسمية قبل أن يتقاعد.
لا يندرج هذا الاغتيال سوى في سجل جرائم الثأر والانتقام؛ مهما كانت الأسباب والفاعلين، سواء جاء من طرف أحد المتضررين القدامى أو ممن يحاول تهدئة الجمهور بأن يقدم له أضحية متأخرة، أو ممن يلعب على وتر تعكير السلم الأهلي أو على مذبح طموح البعض في الوصول إلى السلطة والبعض الآخر في استمرار الإمساك بخوانيقها!
والثأر هو ممارسة عنف لا عقلاني صرف لأنه يهدف إلى إلغاء ما قد حصل بطريقة سحرية. ويلعب هنا عدة وظائف: فعدا عن إلغاء مفاعيل هذه القضية من ألفها إلى يائها، يقول للجمهور: “عوضنا لكم” عن القتل الرمزي الذي طالكم في قضية الفاخوري بأضحية تغسل العار الذي شعرتم به. ولمن يعنيهم الأمر “إذا عدتم، عدنا”. على أمل أن يكون الشوط النهائي في هذه المباراة.
لكن المنطق هنا لا يستقيم، لأن الفاخوري خرج بقرار محكمة عسكرية لبنانية ومن قاض محسوب على “حزب الله” سياسيا. مع ذلك تم استغلال القضية لتشريع المعابر غير الشرعية، بحجة الطائرة الأميركية التي أقلته لأنها “اعتداء على السيادة”. لكنه شكل أيضا اعترافا بأن الحزب ينتهك السيادة كل الوقت.
أما تصفية الحايك بسبب ممارساته في سجن الخيام، فلقد تأخر كثيرا، عدا عن أن قتله بدم بارد وبكاتم للصوت يعد تصفية وحكم إعدام من قبل محترفين، ربما “ليفشوا خلق” المعترضين أو تخديرهم؛ او هو تحذير مستقبلي لمن قد يخل بدوره ووظيفته المرسومة له مع الحزب سواء كانت التزام أو اتفاق أو غيره.
أما إذا كان هناك تململ، مستجد واعتراض على كيفية معالجة ملف العملاء من أصله، فليس على الحزب المهيمن على السلطة، مهما نفى هذا الواقع، سوى أن يعيد المحاكمات تحت سلطة القانون وليس عبر إرسال الرسائل التي تهز السلم الأهلي وتضرب القضاء.
والضحية الأولى في كل ذلك، هي الدولة والسيادة والقضاء والشعب اللبناني، والأخص بينهم الشيعة الموالين للحزب. والخطورة الثانية تكمن أن هذه الحادثة، وهوية الضحية، تفتح باب الثأر والانتقام والتصفيات وتهدد السلم الأهلي وكأن هناك من يريد التلاعب به أو استخدامه للضغط ووضع آلاف الأشخاص موضع تساؤل وعرضة للانتقام.
في العام 2013 كتبت مقالا بعنوان، “الشيعة العرب عملاء في أوطانهم“، طبعا أثار حفيظة الكثيرين، بمن فيهم مسؤول الصفحة الذي غير العنوان الأصلي الأقل استفزاز.
فالحرب السورية نبّهتنا إلى كارثية الدور الذي اضطلع به “حزب الله” في انخراطه في قتال الشعب السوري، وإمعانه في توسيع حروبه من العراق وصولا إلى اليمن ولم يردعه رادع. بينما جمهوره منتش ويشعر بفائض القوة والاستقواء.
ألا يشعون بالاستقواء حتى في أزمة كورونا عبر منع الدولة من اتخاذ التدابير الوقائية الجذرية؟ بينما يعلن رئيس المجلس التنفيذي في “حزب الله” هاشم صفي الدين عن خطة “حزب الله” لمكافحة وباء كورونا! مع أن وزير الصحة في لبنان سمي من قبل الحزب، ويفترض أنه يقود جهود مكافحة الوباء ووضع الاستراتيجيات له!
وأعلن الحزب أنه جهز 24 ألف شخص للجهاز الطبي ومستشفيات ومختبرات وفنادق، تجاوزت الدولة اللبنانية وخططها. وعدا عن أنه يعني تفشي الوباء، عنى أيضا وجود دولة أقوى من دويلة لبنان الرسمية ولا نعرف عن عدد إصاباتها ولا عن مرضاها، فهم غير مسجلين في السجلات الرسمية على ما يبدو! كما أن الوضع غير مطمئن والحكومة خارج السمع.
“حزب الله” منذ العام 2005 يعتدي على الدستور والقوانين اللبنانية. وتحول إلى معتد على الدول العربية منذ انخراطه في الحرب السورية بذرائع شتى. وكان على جمهوره أن يعي هذا مبكرا وأن يتململ حينها؛ لا أن ينعت من يدينه بعمالته لإيران بالخيانة والعمالة ومساواتها بالميل السياسي نحو، سواء السعودية أو الاميركية. عليهم أن يراجعوا أنفسهم عن تخوين من قال إنهم فرقة من الحرس الثوري لأن أي تبعية كاملة كالتي يمارسونها ويعلنون عنها للخارج هي خيانة للجنسية التي يحملونها، سواء كانت لإيران لأميركا أو إسرائيل أو السعودية أو غيرها.
قضية الفاخوري ـ الحايك، تؤكد تعطل الدولة والحكومة والسلطات الرسمية وعجزها عن القيام بدورها لجهة حماية مواطنيها وترك الجناة أحرار آمنين مع ما للمخابرات من باع مشهود. وليعفوننا من معزوفة “منظمة أو عصابة” قامت بذلك على غرار اعتراضات الأهالي في زمن مضى.
لا يمكن للحكومة أن تغض النظر عن قضية تعيد نكء جراح الماضي وتحيي تداعيات الحرب الأهلية التي لم تشف لأنها لم تعالج أصلا. فلا مصالحات قد حصلت ولا جهد بذل لتفعيل آلية فض النزاعات والاعتراف بجروح الآخرين أو القيام بمحاكمات علنية تساهم بالاعتراف بالذنب كمقدمة لمصالحة فعلية.
إننا في لحظة توتر سمحت بتصاعد انعدام الثقة المتبادل بين المكونات الاجتماعية ما أوصلنا إلى انشطار عامودي مواز لم يعرفه لبنان حتى في أحلك ظروفه الأمنية. وتكاد الانقسامات المستجدة أن تغطي على الوحدة المواطنية التي برزت في 17 أكتوبر، لتهدد السلم الأهلي الذي لا يقوم فقط على مجرد إيقاف عنف الحرب؛ بقدر ما يهدف إلى تدعيم نظام للقيم وحسن العلاقات بين الأفراد والجماعات وتدعيم التماسك الاجتماعي. وهذا يتطلب بناء نظام سياسي واجتماعي واقتصادي في مجتمع مستقر وآمن يسوده القانون والعدالة ويتساوى فيه الأفراد والجماعات وفق أسس متوازنة ومتلازمة للحقوق والواجبات.
monafayad@hotmail.com