يتميز النزاع السوري متعدد الأطراف بالتهافت الإقليمي والدولي والرهانات الكبرى والمصالح المتضاربة، لكنه استثنائي لجهة أسلوب المنظومة الحاكمة في استدعاء الخارج والتدمير المنهجي والإدارة الخبيثة للصراع والهندسة البشرية والجغرافية للبلاد.
وفي نفس سياق التغريبة السورية والتغيير الديموغرافي تأتي بعض القوانين الاعتباطية والمحيرة مثل القانون رقم 10 للعام 2018، كي تعقد أو تمنع عودة المنفيين وتهدد بنزع الملكية من أبناء حاضنات الحراك الثوري وذلك بغية إعادة رسم سوريا وإعادة إعمارها بما يتلاءم مع ديمومة السيطرة الأسدية.
يمكن للمراقب أن يتساءل عن جدوى إصدار قوانين أو الاهتمام بقوانين في وضع محكوم بقوانين الطوارئ والأحكام العرفية، وتسود فيه ما يشبه شريعة الغاب أو النزاعات بين المتحكمين أو قوى الأمر الواقع، لكن من يفهم دوافع النظام يتوجب عليه التنبه لخطورة هذه التشريعات التي تكرس انقلاب الأمر الواقع، وذلك انطلاقا من خطاب شهير لبشار الأسد في أغسطس عام 2017 قال فيه حرفيا “بالفعل خسرت سوريا الكثير من شبابها وبنيتها التحتية، لكنها كسبت في المقابل مجتمعا أكثر نقاء وأكثر تجانسا”.
ويُنسب إلى أحد مسؤولي حزب البعث قوله في بداية الأحداث في العام 2011 “ثمة إمكانية لإرجاع عدد السكان في سوريا إلى ما كان عليه عندما استلم حافظ الأسد الحكم” أي حوالي ثمانية ملايين نسمة بدل 21 مليونا. وإذا جمعنا عدد المبعدين والنازحين والضحايا من الأكثرية السنية نصل إلى حصيلة تعكس مفاعيل التطهير المذهبي والإفراغ والتغيير السكاني واستباحة مقومات الوحدة الوطنية وتدمير الحجر والبشر، ربما لفرض التقسيم الضامن لبقاء السيطرة الفئوية المرتبطة بالمشروع الإيراني الإقليمي.
واللافت أن القانون رقم 10 المثير للجدل صدر في الثاني من أبريل الماضي، أي في موازاة سقوط الغوطة الشرقية وكأنه جاء ليكرس استكمال غالبية حلقات التغيير الديموغرافي وحركات السكان وليؤكد من خلال التشريع القانوني القسري الوقائع الجديدة على الأرض.
تحت ستار تنظيم المناطق والعشوائيات وفي وقت يتم فيه التسويق لإعادة الإعمار، يعتبر العديد من القانونيين السوريين أن إصدار هذا القانون مستغرب وتوقيت الإصدار مشبوه، لأن هناك القانون رقم 23 للعام 2015 والقانون رقم 33 للعام 2008، وهما كافيان لتنظيم إعـادة الإعمار ومعالجة مناطق العشوائيات.
لكن لغاية في نفس يعقوب تم طبخ القانون 10 ومهلته الزمنية التي تطلب من كل سوري إثبات ملكيته في الطابو (سند الملكية)، إن بشكل مباشر أو عبر توكيل أحد أقربائه خلال ثلاثين يوما من تاريخ بدء إعلان إعادة تنظيم المناطق وإلا سيخسر حقه في الملكية. وهذه الفذلكة تعني عمليا إغلاق الباب أمام عودة النازحين والمنفيين، في الوقت الذي يكافأ فيه الموالون للنظام.
ولوحظ منذ بدء التطهير من المعضمية وداريا بواسطة “الباصات الخضر” سيئة الذكر، مرورا بالاتفاق المريب للتبادل بين الزبداني – مضايا وكفريا – الفوعة، وصولا إلى الغوطة وجنوب دمشق وريفي حمص وحماة، كيف مهدت المنظومة الحاكمة لهذا التزوير في نزع ملكية الناس والعمل من دون ضوضاء على تشريع يهدف إلى إعادة تشكيل البلاد بعمق.
ويسهّل هذا النص مصادرة مناطق كاملة من الأراضي السورية، لا سيما في المدن والمناطق شبه الحضرية، التي أصبحت الآن مدمرة، حيث تجذرت الانتفاضة المناهضة لبشار الأسد.
والمخجل أن ما يسمى مجلس الشعب، وهو غرفة مطيعة تنفذ الأوامر العليا، اعتمد ذلك سريعا باسم إعادة بناء البلاد، علما أن هذا التشريع يمكن أن يؤدي إلى حرمان مئات الآلاف من اللاجئين من أي احتمال للعودة، ويكرس أوضاع استعصاء وتوطين في البلدان المجاورة، وأبرزها لبنان لأن النازحين أو اللاجئين الموجودين فيه ينحدرون غالبا من مناطق ريف دمشق ووسط سوريا المستهدفين بالقانون رقم 10، وكذلك القانون رقم 3 الصادر في يناير 2018 الخاص بإزالة أنقاض الأبنية المتضررة (الـذي سيغير الجغرافيا ويمحو آثار الملكية).
بعد التدمير الذي تخطى في بعض الأمكنة، الدمار في الحرب العالمية الثانية، يبدأ السباق النفعي البشع على حساب الضحايا. ويستعجل رجال أعمال المنظومة الحاكمة، وعلى رأسهم رامي مخلوف، مع أصدقائهم الروس والإيرانيين السعي لقطف ثمار رسم مناطق جديدة وعوائد إعادة الإعمار، ويجعلون من إغراءات منح العقود نوعا من الطعم للكثير من الدول مثل الصين وألمانيا وبعض الدول الأوروبية الطامعة بالمشاركة في الكعكة السورية.
والملفت للنظر أنه خلال الزيارة الأخيرة للمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل إلى روسيا صرح الرئيس فلاديمير بوتين أمامها بما يشبه خارطة الطريق لجذب الأوروبيين إلى مشاريع إعادة الإعمار قبل الولوج إلى الحل السياسي الفعلي والواقعي، إذ قال “نؤكد سعي جمهورية ألمانية الاتحادية للمشاركة بشكل جدي في إعادة إعمار البنى التحتية الاقتصادية والاجتماعية لسوريا، ومن الضروري أن تكون أي مساعدات بالتوافق مع السلطات الشرعية”.
ولم ينس بوتين التلويح بموضوع اللاجئين عندما حدد أنه “في حال أرادت أوروبا عودة اللاجئين السوريين إلى وطنهم عليها المساعدة في إعادة إعمار سوريا ورفع القيود عن مناطق سيطرة الحكومة السورية”. وفي المقابل طلبت ميركل من بوتين الضغط على النظام السوري لإلغاء القانون 10 الذي يعطل عودة اللاجئين ولم تلق جوابا.
بالرغم من أن روسيا عبر مراكز المصالحة تحاول التخفيف من وطأة التغيير الديموغرافي وتثبيت بعض السنة السوريين في أماكن سكناهم، لكنها تبدو عاجزة أو لا تريد لجم إيران والمنظومة الحاكمة المتورطتين في تغيير وجه سوريا وبلاد الشام.
من الناحية القانونية يطرح القانون رقم 10 إشكالية لا يستهان بها، لكونه تسبب بازدواجية غريبة في التشريعات الناظمة لموضوع تنظيم وعمران المدن، نظرا لوجود قانون عام لتنظيم المدن وعمرانها، وهو القانون رقم 23 للعام 2015، مع العلم أن هذا القانون يمكن أن يطبق على المناطق المصابة بكوارث طبيعية من زلازل وفيضانات، أو التي لحقها الضرر نتيجة الحروب والحرائق، (المادة 5/ أ).
كما يشمل مناطق المخالفات الجماعية القـائمة ضمن المخططات التنظيمية المصـدقة، (في المادة 3)، ويشمل أيضا أي منطقة ترغب الجهة الإدارية في تنفيذ المخطط التنظيمي العام والتفصيلي المتعلق بها (في المادة 5/ ج).
يعتبر قانون العام 2015 أكثر رأفة بملاك العقارات في المنطقة التنظيمية من القانون رقم 10 لعام 2018، سواء لجهة مبدأ التوزيع الإجباري الذي يعتمده بدلا من خيارات المادة الـ29 الثلاثة في القانون 10، أو لجهة الاقتطاع المجاني من عقارات المنطقة التنظيمية لصالح الوحدات الإدارية، أو لجهة الإعفاء من الرسوم بالنسبة للعقارات التي طالها الدمار جراء الحرب.
يقول مرجع قانوني كبير “يجب أن يُفهم القانون في ظل الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي نشأ وترعرع في ظله”، ولذا لا يمكن مقاربة القانون رقم 10 للعام 2018 إلا في ظل الاستنسابية السائدة وتجيير كل شيء من تدمير البلد إلى إعادة رسمه وتركيبه من أجل تأبيد المنظومة الحاكمة.
khattarwahid@yahoo.fr