لو أن المرء أمسك بحبّة رمل، وامتدّ بها بذراعه وسط الليل، فما تخفيه حبة الرمل هذه من قبّة السماء هو مقدار ما تظهره الصورة التي التقطها مرصد «جايمس ويب» الفضائي التابع لوكالة «ناسا»، وفق عبارة مدير الوكالة في جلسة إشهار الرئيس جو بايدن لهذه الصورة للعموم يوم الاثنين الماضي.
في هذا المقدار الفائق الضآلة من السماء، وضآلته هي حصراً لابتعاده السحيق عن الأرض، تتراكم المئات من المجرّات ومن مجمّعات المجرّات. المجرّات، كما راقبها واختبرها وأثبتها علم الفلك، تجمع كل واحدة منها ما يصل إلى مئات المليارات من النجوم، نجوم تقع الشمس عند قرابة أواسط تصنيفاتها، أي منها ما يزيد حجماً وعمراً عن الشمس، ومنها ما ينقص. وإلى أمس قريب، كانت التوقعات تلازم النظرية بأن يكون لمعظم هذه النجوم مجموعات شمسية، أي كواكب وكويكبات وشهب وغيرها. أما اليوم فهذه التوقعات مثبتة. ومن شأن مرصد «جايمس ويب» أن يقدّم أوائل الأدلّة المصوّرة عن هذه الأجرام التي كانت مستعصية عن المشاهدة لابتعادها وقصور أدوات متابعتها.
ومجمّعات المجرّات هي للمجرّات ما المجرّات هي للنجوم. أي أن أعداد المجرّات في المجمعّات هائلة، وتنوّعها وتشكيلاتها لا تزال صعبة المنال، سواء من حيث النظريات الشارحة لها أو من حيث الأدوات المتاحة لدراستها. والتعويل على مرصد «ويب» أن يساهم في تحسين الحال في الأعوام والعقود المقبلة.
ثم أن هذه الصورة الأولى لـ «ويب» هي جولة في الفضاء البعيد، إذ تبعد مسافة ما فيها عن الأرض ثلاثة عشر مليار من السنوات الضوئية (والسنة الضوئية للتذكير هي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة، علماً بأن الضوء يقطع مقدار محيط الكرة الأرضية برمّتها ثماني مرات في الثانية الواحدة). ولكنها أيضاً جولة في الماضي السحيق، إذ أن الضوء القادم من هذه الأجسام السماوية قد استغرق مليارات السنين لبلوغ الأرض، فما تظهره صورة «ويب» ليست المجرات والمجمعات كما هي اليوم، بل المجرّات والمجمعات كما كانت بعد «الانفجار الكبير» ببضع مئات الملايين من الأعوام. وفي صور لاحقة، ينتظر أن يغوص «ويب» في المزيد من الزمن ليقترب من أن يلامس «الانفجار الكبير».
«الانفجار الكبير» هو لحظة تشكّل الكون وفق النظرية العلمية الأكثر استقراراً اليوم، على تعددّ الرؤى بشأن تفاصيلها ومحركاتها. لا تجيب هذه النظرية على السؤال الأول حول علّة وجود الكون، مع وجود مساعٍ من مفكرين وعلماء عديدين لسبر أغوار هذا السؤال الحرج.
منهم من يستعيد «نظرية الكم» وهي إحدى النظريتين الأساسيتين اللتين يقوم عليهما فهم الكون اليوم (الأخرى هي «نظرية النسبية»)، ليذكّر بأن هذه النظرية قد ألزمت التعامل مع جزيئيات المادة المتناهية الصغر بشكل يتعارض مع التوقعات المنطقية المعتادة، أي أن هذه الجزيئيات هي أجرام من وجه، وموجات من وجه آخر، ولا مقابل حسّي أو منطقي قياسي لهذا الواقع المدعوم اختبارياً ونظرياً. فيطرح هؤلاء المفكرون بالتالي الحاجة إلى انتقالة نوعية في اعتبار المعطيات على مستوى المادة المتناهية الكبر، على نمط نظرية الكم وربما تحاكي القفزة التي تحقّقت مع الانتقال من الدين والفلسفة إلى العلم التجريبي. وكما أن العلم التجريبي لم يقضِ على الإيمان القلبي والحكمة العقلية، بل دفع بهما إلى الإقرار بحدود اشتمالهما، فليس المطلوب هنا انقلاباً معرفياً، بل توسيع للرؤية والعبارة، أي ربما أن البحث عن صيغ تفسيرية للمتناهي الكبير لا يزال في مراحله الأولى. ليس سراً أن التقاسم في أوجه المعرفة وأشكالها يشهد رفضاً إجمالياً ومقاومة تلامس القطعية في معظم السياق الإسلامي حيث الإصرار على حصرية المرجعية المعرفية بلحظة الإسلام.
العلم، بالمعنى الواسع إنما المبني على المكاسب التي تحقّقت في القرون الماضية، يستفيد من أوجه ثلاثة، نظرية وتجريبية وعملية. التقنيات المتداخلة، والتي تتجه إلى التطويع الدقيق، للممكن الحياتي كما للمبتكَر الآلي، وإلى الاستفادة من الطاقة بأشكالها وأنماطها لتحسين أحوال الناس صحة ورفاهة ومسكن ومأكل، ولتوسيع النطاق المتاح للبشرية في أصقاع الأرض وعتيداً ربما في ما يتعداها، هي التعبير عن النجاحات العملية للقرون الماضية، في الغرب وملحقاته. العلوم المتشعّبة، المتميّزة والمتكاملة، والقائمة على الرؤية والنظرية والاختبار والتأكيد والاعتماد، هي الأساس العميق الذي يجعل من النتاج التقني ممكناً وموثوقاً وقابلاً للتطوير. وعند ما يتجاوز هذه وتلك يبرز النشاط البحثي الصرف والفكري المحكم، والذي يغترف كامل الرصيد الإنساني للارتقاء به. وهكذا فإن «علم الكون» الحديث يكاد أن يكون النسخة المعاصرة لعلم الكلام أو للعلم الإلهي.
الدين الإسلامي لاحقٌ بالطبع تاريخياً للدينين المسيحي واليهودي، على أن علم الكلام الإسلامي، والذي استفاد بدوره من الرصيد الفكري اليوناني، هو المحرّك الأول لتطوّر العلم الإلهي اليهودي (يذكر هنا أن موسى بن ميمون، أمام المتكلمين اليهود عبر التاريخ، أنجر أهم كتاب له، «دلالة الحائرين»، بالعربية) وصولاً عبره إلى إحياء اللاهوت المسيحي والارتفاع به مع القديس توما الأكويني.
على أن المشاركة الإسلامية في المجهود العلمي عبر التاريخ هي فصول ولّت، انقضت في المحيط العربي منذ قرون عديدة، وإن استمرت بعدها في المحيطين الفارسي والهندي إلى حين.
الواقع اليوم هو أن المساهمة العربية في الرصيد العالمي المتعاظم للعلوم الصرفة والنظرية والتطبيقية هي مساهمة هزيلة، بل تكاد أن تقترب من العدم كلما ارتفعت درجة العلوم. ثمة علماء كانت نشأتهم في المحيط العربي، بل ربما كان تأسيسهم العلمي الأولي فيه، ولكنهم دون استثناء تقريباً، كان عليهم أن يهاجروا كي يتمكنوا من متابعة تحصيلهم، ثم لتسنح لهم فرصة الإبداع والإنجاز.
كون هذه الظاهرة تعود إلى قرون يفرض تتبع أسبابها فيما يتعدى التفسيرات السهلة المسطّحة حول تآمر الغرب ومكائد الاستعمار. لا شك بأن الاكتشافات الكبرى للقارات والمحيطات، والتي غابت عنها المشاركة الإسلامية لدواعٍ موضوعية وذاتية تستحق المتابعة، قد بدّلت من الدورة الاقتصادية العالمية بما إعاد توجيه الفائض إلى الغرب. والفائض هو ما يسمح بتخصيص الموارد لما يتعدّى الحاجة الآنية، وحصيلة ذلك هو تداعم متواصل بين البحث والفائدة، العلم والانتاج.
لا مجال هنا لفضّ النزاع بين من يرى بأن التحجّر الفكري والتضييق على الاجتهاد، بالمعنى الواسع للكلمة، هو ما أدّى إلى الركود والتخلّف الماديين، وبين من يعتبر أن افتقاد العالم الإسلامي للفائض هو ما دفع إلى تعزيز الرؤى المتزمّتة، الداعية ضمناً إلى ضبط الموارد. الواقع هو وحسب بإن الشق من العالم الراسخ تحت المرجعية الضمنية الإسلامية، تراجع وتردّى، فيما الغرب سار من ارتقاء إلى آخر.
ثم جاء الغرب مستعمراً. ثم رحل استعمار الغرب مع النظام العالمي الجديد الذي تألّف في القرن الماضي. استيعاب ما أنجزه الغرب فكرياً ونظرياً كان قد ابتدأ قبل الاستعمار، وهو مستمر بعده، إذ تشتّتت المرجعية الإسلامية، مع زوال الخلافة، والتي كانت اسمية على أي حال منذ قرون، وانكشاف انعدام الكفاية الفعلية للفقه الإسلامي في إدارة شؤون الناس والدولة، وهو انكشاف كان قد ابتدأ قبل الاستعمار.
ما لم يحدث، ودوافع انعدام حدوثه تستحق بدورها التقصي، هو بروز الصيغة المستقرة القادرة على إدارة استيعاب المكاسب الغربية طوعياً وذاتياً وتفاعلياً. من هذه الدوافع دون شك المقاومة البنيوية للأطر ذات النفوذ في المراحل السابقة، بما في ذلك المؤسسات الدينية، وربما قبلها الدولة القائمة على استمرار المفهوم الإقطاعي للسلطة، أي السير على قاعدة أن من هو في موقع السلطة، وبالتالي لديه القدرة غير الخاضعة للمساءلة، له حكماً أن يستجمع الموارد لذاته وخاصته، بدلاً من تحقيق صالح عام يستفيد منه هو وخاصته، بقدر أقل، ويستفيد منه الجمهور، كما هو الحال في الغرب حيث المساءلة تقلّص فرص الاستباحة. فالواقع اليوم، مهما كانت هذه الدوافع، هو أن الأساس البنيوي للمشاركة العربية في المجهود العلمي العالمي غير متوفّر، والتأطير الديني المحبّذ لعدم قيام هذا الأساس يزداد رسوخاً وتأصيلاً.
القضية ليست توجيه الملامة للدين أو العقيدة أو الإيمان كعوائق أصلية. هذه أوجه ملازمة للحياة الإنسانية في كافة المجتمعات. إنما القضية، والحقيقة الحرجة والصعبة، هي أن الدين، هنا واليوم، أي الإسلام تحديداً، في صيغته السائدة المتداولة والتي تزداد شمولاً ومزاعم وتأكيداً، هو عقبة جليّة أمام مشاركة عربية حقيقية في الدورة العلمية العالمية.
الشمولية الفكرية الإسلامية تدفع باتجاه أن كل فكرة، كل رأي، كل خاطر، كل تصوّر، كل نظرية، عليها أن تمر عبر غربال الدين، وفق ما فهمه وارتضاه جمع من العلماء الشرعيين الرسميين ثم الدعاة الجدد المتسلحين انتقائياً بالعلم التجريبي، فإن تبين أنها تعارض النص أو لا تليق بالقناعة الدينية، فهي بدع مرذولة اعتبارها مرفوض والاستهزاء بأصحابها واجب، والطعن بمروجيها فرض لخروجهم عن نعمة الإسلام.
إياك ونظرية التطور، فهي تعارض صريح النص حول الخلق من طين ونفخ الروح فيه، وحاشا الإنسان أن يكون حفيد القردة. بل فلنتصيد كل شك وكل ظن وكل هفوة وكل مراجعة في قراءة مغرضة للنتاج العلمي العالمي، وهو النقدي المسائل لذاته بطبيعته، ونستخرج من هزيلها ليس إسقاطاً وحسب لنظرية التطور، بل تشنيع بـ «الدراونة» والعلمانيين والملحدين.
وإياك ونظرية الانفجار الكبير، بل عليك تجاهل ما أصبح قابلاً للمشاهدة والإدراك في شكل الكون ومكوناته، والاقتصار على ما كان متوهماً في زمن تدوين النص، أو الركون إلى دراسات وموسوعات أهوائية تلوي عنق الكلام لتستقصي اعتباطياً من النص الديني كل اكتشاف.
طبعاً ثمة سبيل للتوفيق بين العلم والدين، وذلك بإعادة النص الديني إلى موقعه كأصل للقناعة الإيمانية الملزمة لصاحبها ولمن يتفق معه طوعاً، لا توريطه بزعم أنه أصل للمعرفة العقلية القائمة على أسس وقواعد مشتركة بين الناس، والسماح بين القناعة والمعرفة بالتجاور الخلافي أحياناً كثيرة، السجالي أحياناً أخرى، والجدلي دوماً. غير أن هذا السبيل قد ولّى عليه الزمن بعد قرن كامل، هو القرن العشرين، شهد ما شهده من إمعان هادر في توسيع ما تشتمله المرجعية الدينية قسراً وعنوة مع كل بروز لمجال معرفي جديد.
المحيط العربي اليوم أمام مواجهة ثلاثية، طرف يقول أن اليقين ديني وأن العلم «الغربي» علم زائف في أصوله ومعظم فروعه والكثير من نتائجه، وإن جاز أخذ المفيد منه وترك المفسِد. وطرف يجاهر بأن العلم قطعي سرمدي ويهمس بأن الدين خرافة وأنه لا إله إلا العقل، وإن صحّت الاستفادة من الدين بأخذ الصالح الأخلاقي قي حال تواجده وترك الطالح الكثير. وطرف ثالث يبحث عن حلّ وسط، فيقرّر أنه لا تعارض من حيث الجوهر بين الدين والعلم، وأن من يزعم التعارض يسيء فهم هذا أو ذاك.
الطرفان الأول والثاني يتقاربان إلى حد التطابق في المنهجية والنتائج وإن اختلفت آلياتهما وآلهتهما. غير أن الحل الوسط الذي يعتمده الطرف الثالث لا ينجز التوفيق، بقدر ما يحقّق هدف الطرف الأول بإبقاء العلم تحت وصاية الدين، أي أن التفكير الجديد لا بد أن يجد مرتكزاً له، وإن تأويلاً، وإن بعيداً، وإن شكلياً، في بعض ثنايا النص الديني.
وكأن العلم بحر محيط شاسع واسع، ولكن مياهه وتياراته وأمواجه ملزمة أن تمر عبر عنق زجاجة الدين، والخلاف بين الفريقين الأول والثالث حول من له وصاية الحكم على القدر الضئيل من الدفق الذي قد يؤذن له أن يعبر عنق الزجاجة هذه. مع هذا التقييد ومع هذا الضبط، الفجوة المعرفية بين المحيط العربي وسائر العالم مهيأة لأن تتسع وتتعمق وتزداد.
معالم الحل ليست بسيطة، وتأسيس البنية الكفيلة بتمكين البحث العلمي في المحيط العربي هو مجهود لا بد أن يطال أجيالا بأكملها، هذا إذا تواجد فيها من هو بموقع التأثير والقدرة والرغبة للسير بهذا الفعل قدماً. على أن الخطوة الأولى قد تكون بالدعوة إلى فصل الدين عن العلم. لا، ليس في الأمر التفاف ونفاق ومتابعة سافرة للمؤامرة الساعية إلى فصل الدين عن الدولة، فتلك دعوة مستقلة محمودة لذاتها ومجاهر بها دون تحفظ. ما هو هنا يأتي نتيجة حسرة وأسف بأن العالم بمعظمه يتقدم ويبدع وينتج ويتشارك في المغامرة العلمية الكونية المستمرة، فيما المحيط العربي، رغم عدم افتقاده للإمكانيات والطاقات، يبقى مهملاً ومغيّباً وخاسراً. ليت، لعل، وعسى.