مرةً أخرى، بعض الكلام الهادئ في موضوع العنصرية ضدّ السوريين النازحين إلى لبنان يفيد في توضيح الصورة.
بدايةً، لا بدّ من التأكيد أن العنصرية هي قمة اللا إنسانية وانعدام الأخلاق، ومؤشرٌ أساس إلى تَخَلُّفِ المجتمعات وعَجْزِها عن التطور. بل أكثر من ذلك تَبْرُزُ العنصريةُ في دولٍ عالمثالثية انعكاساً لما يسمّونه في علم النفس “عقدة الإخصاء”، أي أن العاجز عن حلّ مشاكله من الدائرة الصغرى (محيطه الأُسَري والاجتماعي والعمَلي) الى الدائرة الكبرى (الحُكْم والسلطة) يلجأ إلى بطولةٍ وهميةٍ تعويضيةٍ على حساب الكائنات التي يرى أنها أضعف، من وجهة نظره، فيستبدّ ويزداد طغْيانُه بالتوازي العكسي المطرد مع زيادة عجْزه وفَشَلِه.
في موضوع لبنان، تستقيم النظريةُ ولا تستقيم. فالعجزُ والفشلُ موجودان بعمْقٍ في النفوس، لكن العلّة أكبر من ذلك بكثير. هي ليست انحرافاً خاضِعاً لفرضياتِ عِلْمَيْ النفس والاجتماع بل مَرَضٌ عضال في بنية الجسد المُمانِع بدءاً من رأسه المتخلّف وصولاً إلى “أذنابه” المُلْحَقين.
بعيداً من استحضار تاريخ العنصرية في سورية كوسيلةٍ من وسائل ترسيخ حُكْم الأسد، ومن التركيز على لبنانيين اعتقدوا أنهم شعب الله المختار وأن “دماءهم الزرقاء” ترْفعهم أرضاً وسماء، لا بد أن تروى قصة العنصرية الراهنة التي يتعرّض لها سوريون بعناوينها الحقيقية … قرار حاكِم قصر المهاجِرين وتنفيذ حلفائه في لبنان.
النازحون السوريون في لبنان بغالبيتهم ناجون من مذبحةٍ ارتكبها ويرتكبها نظام البراميل كل يوم. انضمّت إليهم مجموعاتٌ كبيرة “استقصائية” تخدم النظام بالبيانات التي تقدّمها عن حركة وحِراك الناشطين بين النازحين وتخْدم نفسها بالمساعدات المالية والعينية التي توزّعها الأمم المتحدة والهيئات الإنسانية الأخرى. وهذه المجموعات المُوالية للأسد هي التي تستفزّ الناس بين فترة وأخرى فتحمل صور زعيمها وتجول المناطق هاتِفَةً له بالروح والدم، وهي التي تقفل الشوارع عند الاستفتاءات الدورية التي تُجْريها السفارة، وهي مَن قال عنها المسؤولون إنها تُداوِم في المخيمات خمسة أيام تقبض المُساعَدات ثم تذهب إلى بيوتها في سورية خلال عطلة نهاية الأسبوع.
في المقابل، وبرصْدٍ سريعٍ لغالبية التعليقات والممارسات العنصرية للتيارات والفئات اللبنانية يتّضح أنها كلّها من أصدقاء نظام البراميل. في السابق كان السياسيون اللبنانيون الذين أتى بهم غازي كنعان الى السلطة يقولون:”صلّوا كي يبقى نظام الأسد فإذا انهار لن نستطيع التفاهم مع شعبٍ بغالبيته ريفي ومتعصّب”، واليوم يقولون إن نظام الأسد هو الضمانة لتخفيف عبء هذا الشعب عن اللبنانيين، وربما خجل بعضهم علناً من إعادة تشبيه الأسد للشعب السوري بالجراثيم.
وبين الطرفيْن، جماعةُ بشار في المخيمات وجماعةُ بشار خارج المخيمات، يدفع النازحُ أثماناً مضاعفة من الألم والجهد للحفاظ على الكرامة والسوية الإنسانية. فإن ارْتَكَبَ أحدُهم جريمةً لا يعود القانون مرجعاً للمحاسبة بل حرْق خيم أبرياء، وإن عملَ النازحُ في البناء فهو يأخذ من درْب لبناني مع أن صاحب العمل لبناني لم يغْصبه أحدٌ على الاختيار، وإن عبّر عن غضبه من ظلمٍ أو جورٍ وهو ليس من تَحْتِهِ تحْت ارتفعتْ أسوار الغيتو ومُنِعَ كثيرون من التجوّل. والأغرب من ذلك كله أن مشكلة الكهرباء التي أنارتْ ملفات الفساد والسرقات ومافيات المولّدات، صار مَن لا يجد بطانيةً تقيه ظُلْمَ الطقس هو المسؤولُ عنها … أما مئات الملايين التي وصلت من الأمم المتحدة لصرْفها في أعمال الإيواء والإغاثة، فتكفي استعادةُ السجالِ داخل تيارٍ سياسي لبناني واحدٍ (موالٍ للأسد) لمعرفةِ مَن قبض ومَن سرق.
لا ملائكة في لبنان ولا في خارجه. “يفشّ” الباحثُ عن منفسِ قوةٍ وبطولةٍ وهميةٍ خلْقَه بنازح. يفْقد رجلُ أمنٍ أعصابَه فيَضْرب ويرْكل ويسْحل. يركّز بعض السوريين (وجلّهم من أصدقاء النظام) على هذه الحوادث ويتجاهلون أن معسكرات أُحْرِقَتْ في اليونان، وأن برامج المعارضة التركية (وبعضها موال للأسد) تتضمّن طرْد السوريين وتصفهم بالمتسوّلين، وأن عملياتِ قَمْعٍ للنازحين تحصل في دول الانتشار يندى لها الجبين … وينسون، وهو المهمّ، أن مَن صَوَّرَ ووثَق عمليات الاعتداء على النازحين في لبنان هم لبنانيون (وجلّهم ضدّ نظام البراميل) وأنهم هم مَن رفع الصوت في كل وسائل الإعلام التي يعملون بها أو يصلون أليها، وأنهم تحمّلوا ويتحمّلون تبعات قانونية بسبب مواقفهم هذه لكنهم أَرْضوا ضمائرهم.
وللذكرى، فقط للذكرى، يوم اغتال نظامُ الممانعةِ الشهيد رفيق الحريري صدحتْ هتافاتٌ تطالب بطرْد القوات السورية من لبنان تبعتْها، في فورةِ دمٍ، اعتداءاتٌ فرديةٌ قليلةٌ جداً على عمّال سوريين في بيروت والجنوب. يومها أعلن “حزب الله” أنه سيقطع اليد التي تمتدّ إلى أي سوري … كم يد من أيادي نظام البراميل وحلفائه امتدّت منذ بداية الثورة السورية إلى سوريين في لبنان ولم ينبس “حزب الله” ببنت شفة؟ وكم يد لبنانية امتدّت إلى سوريين داخل سورية؟
بالعودة الى المبدأ. مَن يعمّم العنصريةَ في الملف السوري واحد. يرْمي برميلاً متفجّراً على الناس في الداخل فيُجْبَرون على النزوح ويوعز لـ”براميل” بشرية حليفة بتفجير الكراهية والحقد على النازحين تمهيداً لما هو أَبْشع وأَخْطر.