يختل الميزان عندما يزدهر #القمع وتختفي “المبادئ” لمصلحة “التطبيع”.
مهلاً، “المبادئ” التي لا يستقيم معناها الا جمعاً، تحتاج الى غرفة انعاش بعدما نسي مَن صادرها ضرورة ان يستوي في متنها الحد بين الحق والباطل. ولاستحالة الاستواء، لم يجد المُصادِر القوي الا القمع وسيلةً لكمّ الافواه المعترضة على الاختلال. فاستنادا إلى الأرقام وارتفاع نسب استدعاء الناشطين والصحافيين، يتبين ان 60% من المستدعين إلى التحقيق هم بسبب شكاوى طرفٍ بعينه، كما سجل خلال حزيران وتموز “استدعاء أكثر من 15 صحافيا وناشطا ومدافعا عن حقوق الإنسان إلى مراكز أمنية للتحقيق معهم بسبب آرائهم أو تناولهم مسؤولين ومرجعيات سياسية، مع إلزام بعضهم التوقيع على تعهدات بعدم قيامهم بما يوصف بأنه مخالف للقانون أو المس بمسؤولين رسميين”.
عندما تختفي “المبادئ” وتُقمع الحريات للقبض على مزيد من السلطة التي يتوهّم القابضون عليها ان استمرارهم فيها الى الأبد رهينة بـ”التطبيع” بناء على أوامر ربّ نعمتهم، يصبح الرمادي فاقعاً أكثر من لون الشعار الذي رفعه الطرف المتسلق جشعه.
فمَن بنى أمجاده وسمعته النضالية على احتكار البطولة والنزاهة ومحاربة الفساد، انقلب على المقاييس التي صدّقها مَن منحه التمثيل الشعبي. وهو يسلك بوقاحة سلوك “العدوّ” الذي يدعونا إلى التطبيع معه. “شاء من شاء وأبى من أبى”.
يبدو ان ترطيب الذاكرة لم يعد ينفع. فالظاهر ان كل النضال كان للتفاهم مع هذا “العدوّ” الذي كان السبب المباشر، وحده دون سواه، للتشرد والنفي والاعتقالات، واعتبار كل مَن يواجه النظام الأمني المخابراتي باللحم الحيّ منتمياً الى “حزب منحلّ ممنوع عليه بأي شكل من اشكال الاجتماع والتظاهر والاضراب وتوزيع النشرات والخطابات والشعارات والمشاركة في اي نشاطات ذات طابع سياسي او اعلامي او استغلال اي مناسبات عامة او خاصة لإبراز تلك النشاطات والشعارات المرتبطة بها، وحظر الاقدام على اي حركة غير مرخص لها”.
ولكن بئس التعقيدات الطالعة من الذاكرة، وتحديداً لأن عدة الشغل المرحلية تتطلب محو النافر في تاريخ “العدو” الطويل العريض القائم على القمع والقتل. كأن المفاضلة هذه الأيام قائمة على معادلة: لا بأس إن انت قتلت غيري بأسلحة كيميائية وبراميل متفجرة وتعذيب بالجملة في السجون ما دمت قد أقلعت عن قتلي. ولا حاجة حتى للاعتذار إن انت اوصلتني الى السلطة بعد قتلك مَن ادّعي حمايتهم وأحرضهم على تكثيف الشعور الاقلوي لديهم وكره الآخر والسعي الى القضاء عليه خوفاً منه.
التبريرات جاهزة تبدأ بـ”التحالف الاستراتيجي” ولا تنتهي بـ”حماية الاستقرار والإصلاح وبناء الدولة” و”مصلحة لبنان” التي تتلاقح جراثيم الفساد تحت رايتها وانعاش الاقتصاد وتحريك العجلة عبر المساهمة بإعادة الاعمار وحل مشكلة اللاجئين، وما الى ذلك من معزوفات ذرائعية، بينما الهدف واحد.
مفيدٌ لترطيب ذاكرة المطبِّع، تذكيره بأن رفاقه سقطوا بيد “عدوّه” توقاً الى وطن موعود، في حين نراه اليوم ينشد ودّ هذا “العدو” ويتماهى به سلوكاً واستئثاراً بالسلطة والنفوذ. وكأنه لا يكتفي بالاصرار على التطبيع، او كأن لا حساب للسذّج الذين آمنوا بالقضية وسُفكت دماؤهم فداء لتلك المسيرة التي أرادوها في إتجاه وطن يرضي مبادئهم، وأرادها مَن صعد على دمائهم صفقةً نحو السلطة، ولا شيء سواها على ما أكدت الأيام.
أبشع من ذلك. كأن العنصرية ضد شعب بعينه، كانت لها الغلبة على رفض إجرام نظام بعينه لم يثبت الاّ قدرته على إبادة شعبه اذا استحال القمع، ولم يثبت الا لأن محوراً، قوامه التطرف ورفض الآخر، خاف خسارة مكتسباته فرفده بالقوة المستعارة لمزيد من الإبادة والقمع.
أن تطبِّع مع قاتلك وتشارك في جريمة تجميل صورته، يعني أنه محرّمٌ عليك التغني بالمبادئ، او استعادة مراحل القمع والاضطهاد لتحشيد المؤيدين. على كلّ حال، لا يطل الحديث عن المبادئ الا عندما تتلطخ السمعة بفضائح الفساد، او عندما تتطلب الحاجة مزيداً من المكاسب في كعكة الدولة.
وبعد، يبدو ان الحزب المنحلّ لا يزال منحلاً او هو أكثر انحلالاً عندما تتطلب مصلحته ذلك، ولا تعرقله مبادئ تصنّف عقبات بعدما انضمّ الى منتحلي صفة التفوق الأخلاقي لنسج العلاقة العضوية بين القمع والتطبيع.