إحياء الدور العربي للعراق والحفاظ على علاقاته الإقليمية والدولية المتوازنة يرتبطان بإقامة مشروع وطني عراقي عابر للطوائف والمكونات العرقية.
على مشارف الذكرى السادسة عشرة لـ”سقوط بغداد” إثر الحرب الأميركية – البريطانية، لم ينهض العراق حتى اليوم ولم يستعد دولته ودوره في محيطيه العربي والإقليمي، ولم يتمكن النظام الإقليمي العربي الذي أصيب في الصميم من تجاوز هذا الفراغ وملئه واستعادة تماسكه ولو في حده الأدنى.
وأثبت تسلسل الأحداث منذ العام 2003 أن إسقاط العراق كان بمثابة الزلزال الذي لا تزال ارتداداته مستمرة وقد تزايدت آثارها في زمن “الربيع العربي” منذ نهاية عام 2010.
واليوم مع نهاية التمركز الأرضي لما يسمى “تنظيم الدولة الإسلامية” داعش يدخل العراق وجواره مرحلة أخرى في قلب الصراع الإقليمي المحتدم بين إيران التي تريد “بلاد الرافدين” امتدادا اقتصاديا واستراتيجيا، والمملكة العربية السعودية التي تعود بتمهل إلى الساحة العراقية في مسعى لإحياء دوره العربي وعدم تغييب هويته العربية.
لكن مهما كان الوزن الأميركي والنفوذ الإيراني والجهد العربي المستجد، يتعين على النخب العراقية تجاوز الانقسامات القاتلة والولاءات الخارجية باتجاه بلورة مشروع وطني إنقاذي يسمح لبغداد بأن تكون يوما نقطة تقاطع وتوازن بين العالم العربي وجواريه الإيراني والتركي وفي القلب من مشروع نهضوي تنموي عربي طال انتظاره.
في العاشر من مايو عام 2003، أعلن الرئيس جورج دبليو بوش “الانتصار” في العراق، وتصور المحافظون الجدد أن العشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين ستشهد ولادة “الشرق الأوسط الجديد الديمقراطي”.
والآن بعد كل هذه السنوات العجاف وما تخللها من تناغمات وتجاذبات أميركية – إيرانية حتى 2010، وانسحاب عسكري أميركي في 2011، وعودة عسكرية لواشنطن في 2014 بالتزامن مع إعلان دولة الخلافة المزعومة إلى توتر بين الولايات المتحدة وإيران على الساحة العراقية منذ تمركز إدارة الرئيس دونالد ترامب، يتضح لنا بقاء العراق من المسارح الأساسية لتصفية الحسابات الإقليمية والدواية، وعدم النجاح في إعادة بناء الدولة العراقية نظرا لانتهاج عدالة انتقامية وعدم اكتمال شروط المصالحة الوطنية الحقيقية مع طغيان الفساد في نظام محاصصة يكاد يفرغ المؤسسات من محتواها وفعاليتها، كما حصل أخيرا في حادثة عبارة الموصل، وقبل ذلك ما حصل في البصرة خلال الصيف الماضي.
مع عدم القدرة على استكمال تشكيل حكومة عادل عبد المهدي نتيجة الضغط الإيراني في المقام الأول، وفقدان الحصانة في الداخل، تبدو العملية السياسية في العراق وكأنها تقتصر على تسيير الأعمال بين عادل عبد المهدي رئيس الحكومة المتردد، الذي يختلف عن نوري المالكي الواضح في حلفه مع إيران، وعن حيدر العبادي الآتي من حزب الدعوة نفس حزب المالكي ولكنه برهن في معركته ضد داعش وفي تعامله مع العالم على قدر من الاستقلالية لم يستسغه قاسم سليماني المشرف الإيراني على الشأن العراقي، وبين برهم صالح رئيس الجمهورية محدود الصلاحية، وبرلمان لا يمارس مهامه ويغرق غالبا في الجدل البيزنطي أو تنفيذ الإملاءات الخارجية خاصة بعد تصعيد الحشد الشعبي ليكون قوة “فيتو” إيرانية تحاول التحكم بالمشهد السياسي العراقي.
في ظل هذا الانسداد الداخلي، يحتدم الصراع الإقليمي داخل العراق وحوله، ولا تشهد على ذلك فقط مرحلة “ما بعد داعش” وترتيباتها، بل جملة أحداث متتالية: زيارة الرئيس الإيراني حسن روحاني إلى العراق، زيارة وزير التجارة والاستثمار السعودي إلى بغداد وأربيل، القمة المصرية – العراقية – الأردنية في القاهرة، واجتماع رؤساء أركان جيوش إيران والعراق وسوريا في دمشق، وهذا يضاف بالطبع إلى تلك الزيارة الخاطفة للرئيس دونالد ترامب لقاعدة عين الأسد، وزيارة الرئيس برهم صالح لفرنسا، مما يدلل على أن العراق يوجد من جديد في قلب الاهتمامات العربية والدولية وأن حروب وتقاطعات الآخرين على أرضه لم تنته بعد، ولا يزال استقطابه من الرهانات الكبيرة للعديد من القوى الإقليمية والخارجية.
سلطت زيارة الرئيس حسن روحاني الأخيرة الأضواء على انغماس طهران في الشأن العراقي والذي تكرس أكثر في اللقاء مع المرجع الشيعي آية الله علي السيستاني، وسعي القيادة الإيرانية لجعل العراق متنفساً اقتصاديا لتخفيف وقع العقوبات الأميركية التي ستتصاعد على إيران في مايو القادم.
وحسب المعطيات الميدانية تريد إيران أن يكون العراق المنصة الإقليمية الأساسية لها (خاصة إذا زاد الضغط على منصتها في لبنان) وتعمل على تعطيل عودة العلاقة الطبيعية بين العراق والسعودية.
وفي هذا الإطار تجهد الدوائر الإيرانية لمواجهة التحرك السعودي مع رؤساء العشائر في غرب وجنوب غرب الأنبار، وبعض الوسط والجنوب العراقي، وكذلك تبدي إيران قلقا من انفتاح قيادات شيعية من أمثال حيدر العبادي ومقتدى الصدر على الرياض، وتتابع عن كثب التواصل القائم بين التيار الصدري والسعودية.
في المقابل، يشكل تفعيل معبر عرعر بين المملكة العربية السعودية والعراق مدخلا لتعزيز التعاون الاقتصادي، وتفعيل التبادل السياسي مع كل المكونات العراقية من كردستان إلى بغداد والجنوب.
يأتي التحرك السعودي الحذر والمتدرج بالترافق مع أدوار مصرية وأردنية موازية تزيد من الاهتمام العربي بتعزيز الهوية العربية لبلاد الرافدين، وعودة بغداد للعب دورها الطبيعي، بينما نلاحظ انحسارا للدور التركي في الشمال وتراجعا للدور القطري منذ مسألة خطف أفراد العائلة الحاكمة في الصحراء العراقية وتداعياتها.
ويتزامن هذا التموضع العربي الجديد في العراق مع تبدل في المزاج الشعبي إزاء الوجود العسكري والسياسي الأميركي. يجدر التذكير أن غالبية المكونين الشيعي والكردي رحبت بالتدخل العسكري لإسقاط نظام صدام حسين في العام 2003، أما اليوم فقد أدت مسارات الفشل في إعادة بناء الدولة إلى تبدل في موقف المكون السني العربي الذي يخشى “الهيمنة الإيرانية والاستلحاق” وأخذ يطالب بإعادة تعزيز واشنطن نفوذها العسكري في البلاد حاليا كضمانة ولو مؤقتة للتوازنات الهشة في البلاد.
في العراق، تتقدم إيران بخطى ثابتة أيضا لتعزيز مكانتها. وتورد تقارير ميدانية أن الميليشيات العراقية المدعومة من إيران، تزداد قوة وثقة في النفس، مع تمتعها بحصانة إضافية. لكن الأجهزة الأمنية الرسمية تنجح أحيانا في تقليم أظافرها وتحديد أماكن تواجدها للحفاظ ولو بحذر على التوازن الرسمي بين واشنطن وطهران.
ينتشر نحو 5200 جندي أميركي في العراق، إلى جانب بعض القوات الغربية الأخرى، في إطار اتفاق مع بغداد لمحاربة تنظيم داعش وتدريب القوات العراقية. ويستعد مجلس النواب العراقي للتصويت على مشروعي قانون يدعو القوات الأجنبية إلى الانسحاب من العراق. لكن من المستبعد تمرير ذلك على الرغم من إصرار ظاهري للجنرال قاسم سليماني.
بالطبع، لا يسهم هذا التفاقم في الصراعات في تحسين أحوال العراقيين، إذ يزداد الانحدار في ترتيب الدولة ضمن تصنيف الدول الفاشلة، مع تزايد الفقر والبطالة وتراجع الخدمات في بلاد كانت قبل إدخالها في دورة الحروب المستمرة منذ نهاية سبعينات القرن الماضي مثالا على البحبوحة والازدهار والتقدم العلمي.
لا ينفع البكاء على الأطلال بعد كل الذي تعرض له العراق في الحقبة الأخيرة. وفي موازاة الاهتمام العربي من أجل حسر النفوذ الإيراني، وصل الأمر حديثا بواشنطن إلى استضافة مؤتمر يضم بعثيين سابقين في تحذير مبطن لطهران. لكن إحياء الدور العربي للعراق والحفاظ على علاقاته الإقليمية والدولية المتوازنة يرتبطان بإقامة مشروع وطني عراقي عابر للطوائف والمكونات العرقية، يعيد تشكيل الدولة ويحصن بلاد ما بين النهرين في مرحلة إعادة تركيب الإقليم.