العام 2020 سيكون على الأرجح من الأعوام المفصلية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إن بالنسبة إلى مسارات التغيير الداخلية أو لمخاض “اللعبة الكبرى الجديدة” مع الصراعات والتجاذبات حول الملف النووي الإيراني، ومستقبل الوضع داخل إسرائيل والسلطة الفلسطينية.
تنطوي سنة 2019 مع ما حملته من غضب واحتجاجات عابرة للقارات ونرقب سنة 2020 بداية العقد الثالث من الألفية الثالثة، مع ما تعنيه نقلة الزمن من تحوّلات وانفتاح آفاق في مواكبة حركة الشعوب وصيرورتها، وربط ذلك بالحد من انعكاسات تصدع العولمة وآثار التغير المناخي وغياب المحكومية والقيادة العالمية.
يمكن لسنة 2020 أن تكون المنعطف لبدء التحولات الكبرى في إعادة تشكيل النظام الدولي بين أقطابه الرئيسيين وقواه الصاعدة، وأن تكون سنة تكريس عصر النهوض الوطني وتصحيح المسارات في المشرق العربي. ويمكن أن تكون مجرد استمرار للاضطراب الإستراتيجي عالميا وإقليميا. إنه العد العكسي في سباق ثالوث الكبار والتجمعات والدول المؤثرة وكبرى مجموعات الضغط والنفوذ نحو الهيمنة تنافساً أو تقاسما، لكنه أيضا صراع البقاء بالنسبة إلى الكثير من اللاعبين والشعوب في زمن اللايقين وما بعد الشمولية المتعثرة. لا بد من خلال جولات الانتخابات ومصير الصراعات من أن نرى الصورة أفضل على الأقل خلال العام 2020.
سنة 2019 كانت سنة الاحتجاجات بامتياز وكانت الاستمرار والتكريس لحركات من نتاج “الثورة الرقمية” وتراكم تجارب منذ أكثر من عشر سنوات. في سنة 2019 من هونغ كونغ وسانتياغو إلى باريس والخرطوم ومن الجزائر إلى بغداد وبيروت، لم تلعب الأيديولوجيا وكتبها ومنظّروها دورا في تحريك الشوارع والساحات، لم تكن هناك قيادة أو حزب ملهم، بل كانت المعاناة القاسم المشترك والشرارة التي أطلقت العنان عبر وسائل التواصل الاجتماعي التي غدت بمثابة القائد الخفي أو الشبح الذي يؤرق السلطات هنا وهناك.
في سنة 2019، تغير العالم بالفعل وسيستمر التغير سلبا أو إيجابا إذ لا يمكن حبس الأفكار في زمن العالم الافتراضي وثورة الاتصالات. لكن هذه الانتفاضات تحمل في طياتها رفضا لإقامة جدران جديدة داخل الدول أو بين الدول والقارات بعد ثلاثين سنة على سقوط جدار برلين والستار الحديدي.
من الواضح أنه في زمن الجدار الرقمي المفتوح لم تتقبل شعوب كثيرة تهميشها ودوس حقوقها أو زيادة معاناتها وتدمير دولها لصالح نهم رأسمالي أو مطامع مشاريع خارجية أو إمبراطورية، ويحق التساؤل عن حصاد هذه الاعتراضات والاحتجاجات والانتفاضات وعن مشروعيتها وقابلية تحولها وتقديمها لبدائل مسؤولة ونماذج حكم رشيد، وبالطبع تتباين الأجوبة حسب الحالات والظروف الموضوعية وموازين القوى. وإذ أتاحت بعض الحركات البدء بالتغيير ومساراته الشائكة، يمكن القول إن هذه الاحتجاجات التي اعترضت بعضها دولاً كبرى أو واجهت الهيمنة الخارجية، أو تصدت لسلطويين قساة أو فاسدين متجذرين، زرعت في الأرض بذوراً لا بد أن تثمر يوما في اقتلاع الفساد وضرب مشاريع الاستحواذ والسلب الداخلي والخارجي وبناء عالم أفضل.
كانت سنة 2019 حافلة بعناوينها وأحداثها وحروبها ومآسيها. ومما لا شك فيه أن “الحرب الاقتصادية” وفق أساليب “القوة الناعمة” وسلاح العقوبات الذي شحذه الرئيس دونالد ترامب مرارا، كانت السمة الرئيسية، من “هواوي” ومسلسل التجاذب مع الصين، إلى أقصى الضغط على إيران، وسلسلة العقوبات بحق روسيا وتركيا وغيرهما من خصوم ومنافسين حتى داخل معسكر الأصدقاء.
وهذا النهج الهجومي لم يضع جانباً “القوة الخشنة” مع عودة سباق التسلح وعسكرة الفضاء وخصوصاً بين الثلاثة الكبار: الولايات المتحدة والصين وروسيا إلى حد أن عدم تجديد المعاهدات بخصوص الأسلحة والصواريخ الإستراتيجية يهدد التوازنات والاستقرار.
بيد أن هذا الاحتدام الاقتصادي التنافسي والإستراتيجي لا يحجب تغيرات عميقة إذ لسنا فقط في مرحلة ما بعد نهاية الهيمنة الغربية كما أقر الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، بل نحن كذلك أمام تحديات لا مثيل لها للقوة العظمى الوحيدة. ووصل الأمر بريتشلرد هاس رئيس “مجلس العلاقات الخارجية” للكلام عن “ما بعد العالم الأميركي”، إذ يعتبر أنه “في الشرق الأوسط وآسيا ينشأ عالم ما بعد العالم الأميركي وذلك نتيجة ثلاثة أسباب: الأول لم تعد أميركا موثوقا بها ولا يمكن التعويل عليها، والثاني ‘مركنتيلية’ ترامب وفرضه المفرط للعقوبات وقلة استعماله للدبلوماسية والأدوات العسكرية، أما الثالث فهو العزم الذي تبديه الصين وروسيا وكوريا الشمالية وغيرها”.
من هنا تكتسب الانتخابات الأميركية في نوفمبر 2020 كل الأهمية لأن حقبة دونالد ترامب الثانية أو مجيء رئيسة أو رئيس ديمقراطي سيترك أثره على واشنطن والعالم. أما الصين التي تواصل صعودها غير آبهة كثيرا للمعوقات الداخلية، وروسيا التي يسعى القيصر الجديد لتحصين تحوّلها، فترنوان في المقام الأول نحو أميركا ولعبتها الدولية من أجل تسجيل النقاط أو السعي لترتيب تقاسم الحصص والشراكات.
بالطبع، ينتظر البعض على مضض في أقصى آسيا تنفيذ كيم جونغ أون الرئيس الكوري الشمالي لوعيده بإرسال هدية الأعياد لترامب على شاكلة تجارب واختبارات مقلقة، لكن سيد البيت الأبيض الذي فشل في احتواء سيد بيونغ يانغ، منشغل بمحاولة عزله وانتخاباته في عرض مستمر على الهواء وشبكة التويتر.
على المقلب الآخر، يبدو أن الاتحاد الأوروبي الذي سيتحرر في العام 2020 من هاجس “البريكست” غير قادر على الإقلاع لأن المحرك الألماني – الفرنسي معطل عمليا والانطواء الوطني يزداد في زمن بروز الأوتوقراطيين وتراجع الديمقراطيات، أما عوالم الإسلام فلن تفلح محاولة لقاء كوالالمبور في دفع بعض دولها الكبرى للعب دور على المسرح العالمي لأن تكريس الانقسامات والنغمة الأيديولوجية والعودة لمشاريع الإمبراطوريات السالفة، ليست الوصفات المطلوبة للاستنهاض والإصلاح ومواجهة الذات والعمل لترتيب البنى والمؤسسات القائمة.
سيكون العام 2020 على الأرجح من الأعوام المفصلية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إن بالنسبة إلى مسارات التغيير الداخلية أو لمخاض “اللعبة الكبرى الجديدة” مع الصراعات والتجاذبات حول الملف النووي الإيراني، ومستقبل الوضع داخل إسرائيل والسلطة الفلسطينية، كما الصراعات في سوريا وشرق المتوسط وليبيا واليمن، وتطورات المشهد السياسي في كلّ من الجزائر وتونس والسودان والعراق ولبنان.
ما بين الحروب بالوكالة والفوضى التدميرية وصراعات النفوذ والطاقة، يبقى الشرق الأوسط والخليج من المسارح الأساسية في رسم صورة ما بعد العالم الأميركي. وبالرغم من كل السعي لتشكيل مثلث غير عربي بعد حرب العراق (2003) وآثار المتغيرات الإقليمية والدولية، يبقى العالم العربي من الأرقام الصعبة التي لا يمكن حذفها من المعادلات، وأخذت تتكون ولو ببطء عناصر الاستنهاض العربي.
مجمل القول، إن العالم الذي يشهد الطفرة الديموغرافية والتغير المناخي والأزمات النووية المقبلة، ويفتقد لمنظومة قيادة وتحكم، وتزداد عدم إنسانية شموليته المتصدعة، ليس بأفضل من أيّ وقت مضى، ويمكن لأشكال الحروب الباردة الجديدة أو صراعات “البروكسي” من أن تصبح أكثر شمولاً وتهديداً. إلا أن أمثال الناشطة غريتا تونبرج في مجال البيئة وصرخات الشابات والشباب العابرة للقارات من أجل الحرية والعدالة، تجعلنا نتمسك بالأمل ومنع الدوران في الحلقة المفرغة من عام إلى آخر.