يقول یووال نوح هراري إن نمو الذكاء الاصطناعي والتقنيات البيولوجية قد يؤدي إلى إنتاج طبقة من “رجال متفوقين” يحكمون العالم ويحولون باقي البشر إلى “طبقة غير نافعة” (كتاب “21 مسألة للقرن الـ 21“). كما تنبأ بأن التقدم العلمي سوف يولد لامساواة غير مسبوقة في التاريخ داخل المجتمعات، لكن أيضا بين الأمم. سوف تزداد الهوة بين البلدان الصناعية التي تسيطر على التكنولوجيا وتلك المحرومة منها، بل سوف لن تردم لاحقا.
لاحقا، جاء تصريح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن من يملك الذكاء الاصطناعي يمكنه أن يسيطر على العالم ليفتح النقاش حول استخدامات الذكاء الاصطناعي. لأن سيد الكرملين لا يفكر إلا بتعابير السيطرة والإخضاع.
في العالم الرقمي، تعمل GAFA (شركات التكنولوجيا الأميركية الأربع الكبيرة: غوغل، أبل، فيسبوك، وأمازون) من أجل القوة الأميركية وBATX (شركات التكنولوجيا الصينية الأربع الكبيرة: بايدو، علي بابا، تنسنت، شاومي) تسعف المشروع الصيني كي تصبح القوة الأولى في العالم من هنا حتى العام 2049.
لكن الرابط بين GAFA والسلطة السياسية في أميركا أكثر تعقيدا مما هو عليه الحال في الصين، فلقد اعترض موظفو غوغل على تعاون منظمتهم مع الجيش الأميركي. بينما هذا الأمر غير وارد في نظام استبدادي تسلطي كالنظام الصيني. لكن في الحالتين، يُستخدم العملاقان كرأس حربة لتقوية تأثير بلدا المنشأ على العالم.
تفتش GAFA وBATX البضائع التي تمر، وتقبض حقوق المرور. الصين والولايات المتحدة يتقاسمان العالم كما تقاسمت إسبانيا والبرتغال أفريقيا وأميركا الجنوبية في القرن السادس عشر؛ أو كما تقاسم فرانكلين روزفلت وجوزيف ستالين الأراضي في يالطا. لكن، هذه المرة، الآخرين غير مدعويين إلى طاولة المفاوضات. لإنهم لائحة الطعام.
الذكاء الاصطناعي ليس قضية اقتصادية فقط، ولا هو مجرد الروبوت وأليكسا وأمازون الذي يخدمك في منزلك أو يراجع جدول الضرب مع أطفالك؛ إنه أيضا أداة سيطرة. فليس صدفة أن أكبر الاستثمارات فيه يقوم بها العملاقان المتنافسان، الولايات المتحدة والصين هي في هذا المجال، ولو أن الصين لها الأولوية فيما يتعلق بالموازنة التي ترصدها لتطويره.
العالم بأجمعه يعرف غوغل ومايكروسوفت وأمازون والبعض فقط يعرف “علي بابا” و”بايدو” و”تنسنت” الصينية المهمة بالقدر نفسه. هذا دون احتساب مراكز البحث المرتبطة بالدفاع، والتي تتمتع بالاحتضان وتكتسب القيمة العليا في جميع بلدان العالم. فإسرائيل مثلا عبر “start- nation” أنتجت تطبيق Waze ومنتجات أخرى مماثلة، ولديها إيكوسيستم للبحث مرتبط أولا بالحاجات العسكرية.
يسجل التاريخ عودة الصين بعد قرون من الانطواء على نفسها. إنها ترغب بالهيمنة، وتهدف إلى إعادة إحياء طريق الحرير الصيني، الذي يعتبره مؤلفا كتاب “هل يقتل الذكاء الاصطناعي الديمقراطية؟” طريق الاستعباد بالنسبة لأوروبا.
ينبعث الطموح الصيني من مجمل خطابات إمبراطور الصين الجديد: شي جينبنغ Xi Jinping.
استراتيجية الرئيس الجديد شفافة: استخدام الذكاء الاصطناعي (IA) بشكل مزدوج، من أجل ضبط المواطنين داخليا والتحول إلى القوة الأولى في العالم في نفس الوقت.
أجندة الصين للعام 2025 تهدف إلى إنتاج أبطال تقنيين في IA ، وفي استخراج البيانات والمعالجات الدقيقة الجديدة.
أصبحت الصين قائدة في البحث والتطوير العلمي وتسجل حاليا براءات اختراع أكثر من الولايات المتحدة. لا تطمئن فايننشال تايمز ونيويورك تايمز وفورينغ أفيرز للتقدم الصيني في IA المطبق في الميدان المالي والذي يهدد المؤسسات المالية الغربية، بحسب كتاب L’ I A va-t-elle aussi tuer la Démocratie؟ (هل سيقتل الذكاء الاصطناعي الديمقراطية؟)، لمؤلفيه، لورنت ألكسندر وجان فرنسوا (Laurant Alexandre- Jean François, Copé J.-C. Lattѐs, 2019, Paris).
بدورها، اتبعت أوروبا الطريق المعاكس للصين. الحضارة المسيطرة لفترة طويلة والتي انفجرت هيمنتها في العصر الصناعي، تبدو الآن أكثر هشاشة لمقاربة القرن الجديد.
وداعا أفريقيا
لا يعادل النشاط الخارجي الصيني في القارة الأفريقية نشاطها في أي مكان آخر. إن رأسمال الفرنكوفونية، والذي يعطي فرنسا “قوتها الناعمة” الثمينة، مهدد بشكل خطير.
أعلن الرئيس الفرنسي في نهاية 2018 أن مستقبل الفرنكوفونية يتقرر في أفريقيا. سيصبح عدد سكان الكونغو وحدها 200 مليون فرنكوفوني عام 2100. لكن هذه الفرنكوفونية مهددة. فالسبليترنت splinternet أو انشطار الإنترنت و”بلقنته” يهدد الفرنكوفونية. وهذه “البلقنة” بدأت على طول الخطوط الجيوسياسية، فقد أقامت الصين “جدار حماية كبير” سمح للحزب الشيوعي بالسيطرة على شبكة الإنترنت بأكملها. وبعض البلدان كباكستان أغلقت أجزاء من الشبكة على أشخاص متهمين بكونهم”تجديفيين وغير إسلاميين”.
سبق أن اعلن إريك شميدت، مدير غوغل السابق، قلقه منذ خمس سنوات من نتائج تجزئة الشبكة إلى عدة كيانات جيوسياسية، على غرار العالم المادي. شارحا أنه “من الممكن تماما للبلدان ـ المرتبطة بالصين اقتصاديا ـ التزود ببنى تحتية صينية بدل اعتماد البلاتفورم المسيطر عليه حاليا من الولايات المتحدة”. إن طموح الصين الأمبريالي يتمحور حول “طريق حرير جديد” يربط أوراسيا وأفريقيا، بطرق أرضية وبحرية ورقمية ويسمح للصين بأن تنشر نمطها السياسي والاقتصادي.
هذه التبدلات الجيواستراتيجية والجيو اقتصادية لطريق الحرير الجديدة كبيرة لدرجة أن الرئيس الصيني أعلن خطة من 60 مليار دولار لتكوين علماء أفارقة لدعم النمو التكنولوجي.
أحد المخاطر القادمة في القرن الحادي والعشرين، إعادة تجربة نسخة جديدة من الستار الحديدي السوفييتي، “ستار ـ سايبر” يقطع الإنترنت إلى اثنين. وما يسهل هذا التجزئة للإنترنت التقدم التقني الهائل للصين في IA: “سوف تعاينون ريادة مذهلة في المنتجات والخدمات القادمة من الصين”، بحسب شميدت.
يستنفر إريك شميدت عندما يستعيد تصريحات الحزب الشيوعي الصيني: “سوف يلحقون بنا من هنا حتى العام 2020، وفي العام 2025 سيصبحون أفضل. وفي العام 2030 سيسيطرون على صناعة الـ IA .” هذا التطور في الشبكة يسهل مشروع الصينيين في أفريقيا كي تصبح أفريقيا ـ الصين. يستمرئ بعض بلدان أفريقيا منذ الآن جدار الحماية الكبير الصيني، الذي يسمح ـ بفضل IA ـ برقابة فائقة الفذلكة دون تعطيل الأعمال. إن الاستعمار الرقمي لأفريقيا بواسطة BATX الصيني سيصبح صاعقة إذا ما انفجر الإنترنت إلى كيانين منفصلين.
شرح بوتين أن قادة الـ IA سيصبحون أسياد العالم المستقبليين. أعلن الرئيس الصيني أن بلاهده ستصبح القوة العسكرية الأولى بفضل IA. “مايكل غرفين”، الرئيس التكنولوجي في البنتاغون، أبدى تخوفه في فايننشال تايمز في 17 نوفمبر 2018 من أن الجيش الأميركي يحتاج إلى 16 عاما كي يحول فكرة تكنولوجية إلى سلاح فعال مقابل 7 سنوات لدى العسكريين الصينيين..
لكن يبدو أن جائحة كورونا تساهم في عرقلة خطط الصين للسيطرة على العالم. وقد تطول لائحة الدول التي تدعو لمطالبة الصين بتعويضات مالية ثمنا لأخطائها في مسألة كورونا: إما لأنها مسؤولة عن تفشي الفيروس، أو لأنها قدمت معلومات مغلوطة عن سبل الوقاية منه، أو لأنها أعلنت أرقاما مضللة عن خسائرها البشرية.
يتهم العديد من الدول الغربية الصين بأنها أخفت، ولا تزال تخفي، معلومات عن مصدر الفيروس وانتشاره، وتقدم معلومات مغلوطة في ما يتعلق بأعراضه وتأثيره على الإنسان وطرق انتقاله. حتى أنها تكذب في عدد المصابين لديها وعدد الوفيات جراء المرض. وبالتالي يجب أن تدفع ثمن أخطاءها.
وبعد أن شكل لها الوباء فرصة لتحسين صورتها أمام العالم؛ عادت لتواجه تحولا واضحا من عدة دول مما قد يقوّض طموحاتها في أن تصبح قوة اقتصادية وسياسية عالمية.
لذا كان من السابق لأوانه توقَّع أن “عالم ما بعد كورونا” قد تتسيّده الصين، فهي تواجه تحديا تاريخيا غير مسبوق، لن يؤثر فقط على صورتها وسمعتها العالمية، بل قد يتعدّاه إلى أن تصبح الصين مُطالبة بدفع تعويضات مالية لدول العالم. وقد يحمل المستقبل القريب احتمالات قاتمة في غير صالح الصين؛ خصوصا أن الدول تبحث عن مصدر الفيروس.
monafayad@hotmail.com