الحقيقة الثابتة التي يمكن استخلاصها من هذه الأحداث أن النظام الإيراني أصيب بجراحات عميقة
لم يتردد النظام الإيراني وقيادته العليا في المسارعة بالتعامل مع حركة الاحتجاجات المطلبية التي عمّت العديد من المدن الإيرانية بعد قرار رفع أسعار مادة “البنزين” من منطلق أمني ومؤامراتي، وربط المتظاهرين الذين خرجوا إلى الشوارع اعتراضاً على تردي الأوضاع الاقتصادية، واستشراء الفساد والفشل الاقتصادي للحكومات المتعاقبة في إدارة هذا الملف بخيوط خارجية وأجنبية تعمل على تحريك الشارع والعمل على إسقاط النظام.
المرشد الأعلى وبعد مرور يومين من الاحتجاجات، تدخّل مباشرة لرسم الإطار الذي يجب على القوى الأمنية من شرطة وتعبئة وحرس ثورة اعتماده في التعامل مع المحتجين في الشوارع، عندما فرّق بين معترضين لديهم الحق في التظاهر والمطالبة، وبين المخربين الذي يدمرون الممتلكات العامة والخاصة، ولم يتردد في هذا السياق من اللجوء إلى الآلية التي تمنحه المسوغ الفكري والثوري والديني الذي يعطي أي إجراء يتبناه النظام في التصدي للأعمال الاحتجاجية الغطاء الأيديولوجي والسياسي والثوري وحتى الاجتماعي الذي يستهدف الشريحة الموالية والداعمة له، فاختار التصويب على “بقايا” الجماعات الملكية و”عملاء” منظمة “مجاهدي خلق”، واتهمها باستغلال التحركات والسعي لركوب الموجة من خلال استغلال الحاجات الاقتصادية والمعيشية للإيرانيين من أجل التصويب واستهداف النظام ومؤسساته تمهيدا للانقلاب عليه، في إطار تنفيذ مخططات ومؤامرات حاكتها دوائر الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية.
الدخول السريع للمرشد على خطّ التعامل مع الأزمة، التي تحولت إلى موجة عمّت نحو 23 محافظة من أصل 31، تخللها مواجهات أمنية أدت إلى سقوط 106 أشخاص، حسب منظمة العفو الدولية، ونحو 200 شخص من المواطنين، حسب المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، فضلا عن أعداد كبيرة من ضباط وعناصر القوات الخاصة وحرس الثورة والشرطة، يدلل على حجم الخطر الذي شعرت به قيادة النظام بكل مستوياتها. إلا أن حجم هذه الخسائر البشرية لن يدفع النظام إلى إعادة النظر في سياساته وآليات تعامله مع المجتمع الإيراني الشعبي والسياسي، بل سيذهب إلى مزيد من التصلب، بما في ذلك توصيف القتلى بالعملاء والمتآمرين في خدمة الشيطان، بما يخرجهم من دائرة الإيمان والدين، وبالتالي يصبح القتل فعل إيمان لا إثم فيه، مقابل اللجوء إلى تضخيم دور وتضحيات العناصر الأمنية الذين قتلوا وأن ما قاموا به جواز عبور إلى الجنة.
وفي الوقت الذي اكتفى فيه الرئيس حسن روحاني بدعوة عامة الشعب الإيراني للتمييز بين المطالب المحقة وغير المحقة، وبين الذين خرجوا مطالبين بالعدالة الاجتماعية والاقتصادية وبين جماعات الشغب والمصطادين في ماء الأزمة الاقتصادية من أجل التخريب والنيل من النظام والدولة، بما يوحي بشكل واضح باعتراضه على مسارعة جهات مقررة في النظام إلى اعتماد خيار رفع الأسعار، على العكس من كل التأكيدات التي سبق أن قدمها قبل أسبوع واحد من اندلاع الأزمة بأن السلطتين التنفيذية والتشريعية اتفقتا على عدم الذهاب إلى رفع الأسعار في المرحلة الحالية.
هذا التمايز في المواقف بين المرشد والرئيس برز بشكل واضح من خلال مسارعة المرشد إلى الإعلان عن نجاح الأجهزة الأمنية في السيطرة على الأوضاع والدفع بالشرائح المؤيدة للنظام إلى التظاهر في عدد من المدن دعماً للنظام والإجراءات الاقتصادية التي اتخذها، في حين أن روحاني وحكومته غابا عن أي موقف في هذا الاتجاه، ما يعزز الاعتقاد بأن البلاد تعيش حالة من الطوارئ الأمنية الكبرى والشاملة، وأن إدارة الأزمة باتت خارج سلطة الحكومة وانتقلت إلى قيادة أمنية عسكرية تعمل على ترجمة رؤية وموقف المرشد الذي رسم المسار الأمني للتعامل مع هذه التحركات، والتي جاءت أولى إرهاصاته في الخطاب الذي ألقاه قبل أسابيع في الكلية العسكرية، وفي سياق حديثه عن الأزمتين اللبنانية والعراقية، عندما وضع البعد الأمني في التعامل مع هذا النوع من الأزمات في مقدمة الخيارات التي يجب اعتمادها، والتي تؤسس للانتقال إلى المعالجات الاقتصادية.
أما لماذا لجأ المرشد الإيراني إلى الخيار الأخير في التعامل مع حركة الاحتجاجات من دون المرور بمرحلة المعالجات الاقتصادية والاجتماعية والحوارية، وصمّ سمعه عن المطالب المعيشية لشرائح واسعة من الشعب الإيراني الذي أنهكته الآثار السلبية للعقوبات الاقتصادية الأميركية التي فتكت بالطبقة الوسطى وسحقت الطبقات الفقيرة والمعدمة، فيمكن القول إن السبب في ذلك يعود إلى طريقة وآلية التفكير التي تحكم القيادة الإيرانية التي تنظر إلى كل التحركات الشعبية من منطلق التهديد الأمني والقومي، وإن الخيار الأنسب للتعامل معها هو اعتماد خيار العنف، وشيطنة الطرف أو الجهات التي ترفع شعار المعارضة والمطالبة، ولعل التجربة الإصلاحية بقيادة الرئيس الأسبق محمد خاتمي تشكل مؤشرا على هذا النهج الأمني، إذ تحول خاتمي، وهو واحد من أبناء الثورة وأعمدة النظام، إلى “رأس الفتنة”، وزجّ بالإصلاحيين الذين شكلوا الرافعة الأولى التي حملت الثورة منذ انتصارها إلى نزلاء في سجون النظام، وقد شكلت أحداث جامعة طهران والتعامل الأمني الدموي مع الحراك الطلابي عام 1998 نموذجا ومؤشرا لعدم قدرة النظام على تحمل أصوات معارضة ترفع شعارات مطلبية وغير عنيفة، ولا يجد بديلاً سوى العنف للتعامل معها وقمعها تحت ذريعة الحفاظ على الأمن والمصالح القومية التي تحتل الأولوية لدى كل مراكز القوى السياسية والرسمية وتشكل تحديا أساسيا ووجوديا، والتي تشكل المعيار الأساس في رسم السياسات والمواقف.
قد تكون الأجهزة الأمنية والمستويات العسكرية المختلفة في مؤسسة حرس الثورة استطاعت فرض سيطرتها على الأوضاع، أو كما جاء في البيان الذي أصدرته وتأكيدها على إفشال مخططات الأشرار وعملاء الاستكبار العالمي وتجاوز الفتنة الأخيرة باقتدار، مع التأكيد على حزمها في التعامل القاطع مع أي عمليات إخلال بالأمن واستهداف للاستقرار والهدوء بأسلوب ثوري.
إلا أن الحقيقة الثابتة التي يمكن استخلاصها من هذه الأحداث هي أن النظام قد أصيب بجراحات عميقة من الصعب ترميمها أو العودة إلى ما قبل حدوثها، وأن الهاجس الأساس الذي يسيطر على قيادة النظام أن تعمل على توفير انتقال النظام إلى قيادة جديدة تحت شعار الحفاظ على “النظام والثورة”، بغضّ النظر عن الأثمان التي دفعها أو سيدفعها حتى ذلك الوقت.