الثورة تطالب بالإصلاح لمحاربة الفساد، الذي اصبح القاعدة التي تسيّر لبنان، أو بالأحرى تعطله.
محقة الثورة طبعا بمطالبتها بمكافحة الفساد. لكن المشكلة، كيف؟ هناك من يطالب بالإصلاح الإداري وهناك من يصوب على المصارف ورياض سلامة، وهناك من يصوب على قانون الانتخابات ويريد انتخابات مبكرة لتغيير المعادلة، وهناك من يتابع القضاء والسياسيين. لاشك أن الثورة نجحت في خلق جو عام وسلوكيات جديدة كالمراقبة والمساءلة وسجنت السياسيين في مخابئهم. مع ذلك، خلال أكثر من عام لم تتوصل إلى الهدف المنشود، القضاء على الفساد أو تغيير السلطة الحاكمة.
وإذا كان الفساد أصل البلاء، فكيف نعرّفه؟ ومن هو الفاسد؟ ولماذا تحكم الفساد في مفاصل الدولة؟
أجريت نهاية التسعينيات بحثا استقصائيا عن الفساد (نشر كفصل في كتابي “أقنعة الثقافة العربية”). اعتبر في مرحلة أولى قسم كبير من اللبنانيين أن الفساد يتعلق بالأخلاق والجنس. ولكن تطوّر في مرحلة ثانية ليعين الفساد السياسي والمالي والإداري. أي سرقة المال العام وتحويله إلى مال خاص.
الفساد موجود منذ القدم، لكن مؤشرات محاربته وتطلب الطهارة الشخصية والمالية، كمعيار أساسي في العمل السياسي لم تظهر سوى بعد الحرب الباردة.
فما هو الفساد؟
يورد قاموس روبير أنه: “ما يجعل أحدهم يتصرف بشكل مخالف لضميره”، كفساد موظف أو الانتخابات. قاموس كولينز عرّفه “أنه سلوك غير شريف وغير شرعي لأشخاص في وضعية سلطة”، كفساد الشرطة. موسوعة الأميركانا تعرفه “الفساد السياسي هو سوء استخدام الوظيفة العامة وشراء الأصوات الانتخابية بواسطة الوعود أو الترهيب والرشوة التي تتخذ شكل هدايا أو توظيف أو ترقية أو خدمات”.
الفساد موجود في جميع البلدان بأشكال ودرجات مختلفة. لبنان عرف الفساد قبل الحروب على شكل “واسطة”. لكنه لم يكن يوما كما هو الآن.
عندما أسأل من حولي: لم كل هذا الفساد؟ الجواب: “لأن ما في دولة”.
لكن اللجوء إلى الواسطة لا يتوقف على غياب الدولة. برأي البعض أن الواسطة جزء من ترسانتنا الدينية وتكويننا الجيني. عند الضيق نصل#ي ونقيم النذور والزيارات الدينية للأضرحة للحصول على حاجاتنا. “ما حدا بقدس ما لم يأخذ الناولون”، والغفران هو الناولون. فالحياة التقليدية لدى المتدين تدور حول التوسط عند الله.
هذه الممارسات الطبيعية لدى المتدينين؛ لها وظيفة في المجتمعات التقليدية:
اللي ما بيقطع روس
ويشيل من الحبوس
بيدفع فلوس
الخلاصة، السلطة تتحصل بالقوة أو بالخدمات.
الفساد أو الواسطة، في جزء منه استمرارية لنمط التعامل في البنى الاجتماعية الموروثة. لكن عندما تظهر الدولة تصبح الخدمات حقوقاً. ففي دولة القانون لا يعود هناك من حاجة إلى “واسطة” للحصول على خدمات، لأنها حقوق مكتسبة.
لكن خلل الأوضاع المستمر، جعل كل لبناني محتاجا ومستفيدا بشكل أو بآخر من خدمات أحدهم “الشخصية”، بدل أن يحصل عليها كحقوق من الدولة. فمن منا لم يضطر لاستخدام الواسطة؟ وساهم مجبراً بالفساد؟ بدءا من إجراء المعاملات البسيطة، لتسريعها أو لتلافي الإذلال أمام الأبواب؛ وصولاً إلى الحصول على وظيفة في أي سلك في الدولة، أو لإدخال مريض للمستشفى أو إخراج موقوف من المخفر أو إدخال طفل إلى المدرسة. فحقوقنا تحولت خدمات: إدارية وتربوية، استشفائية أو قضائية. يقدمها لنا موظف يعتبر أنه في خدمة الزعيم الذي وظّفه وليس المواطن.
ذلك آليات المحاسبة، لأن الجميع هو جزء من هذه التركيبة الزبائنية الشاملة.
لكن الأمور لم تكن على هذه الشاكلة عند قيام لبنان الكبير، كدولة لها دستور وقوانين، وللمواطن حقوق وعليه واجبات. أقام فؤاد شهاب بعد الاستقلال نموذج دولة المؤسسات التي تعمل وفق القانون وتقوم بالضبط والرقابة وتؤمن حقوق المواطن مقابل ولائه. نلت شخصياً منحة تعليم لبلجيكا من مجلس الخدمة بمباراة. الآن ينجحون ويمنع توظيفهم.
أضعفت الحرب الأهلية الدولة ومؤسساتها. وتفشى الفساد مع الاحتلالات والعنف. وتعممت “الخوّات” كقاعدة سلوك.
وحكاية زعيم ميليشيا عن كيفية تعرّفه على السلطة التي يوفرها السلاح أثناء الحرب توضح الفكرة. طلب منه أحد اتباعه أن يعطيه ورقة تخوله الدخول إلى مؤسسة معينة ليحصل على سلعة منها. رفض الزعيم في البداية فهو لا يعرفهم، فبأي صفة سيطلب؟ بعد الإلحاح كتب الورقة. وهكذا اكتشف سلطة السلاح وأصبحت هذه المؤسسة مصدراً لتمويلهم. وهذا ما نسميه “خوّة”. الآن يمارس الخوّة معظم من في السلطة.
اختلّ السّلم الاجتماعي خلال الحرب الأهلية وتدهور النظام العام وانتفت العدالة فتقهقر الوضع إلى ما قبل – الدولة. وبحسب آرييس: “عندما تكون الدولة ضعيفة ورمزية تتعلق حماية الفرد بالتضامن الاجتماعي وبالقيادة بمعنى الزعامة Cheferies التي تؤمن الحماية. حين يشعر الفرد بالضعف والتهديد يحتمي بسلطة الأمر الواقع.
بعد اتفاق الطائف تسلمت الميليشيات السلطة وتحالفت وخضعت للاحتلال السوري مقابل كراسي ومكاسب يؤمنها الفساد.
في مطلع الألفية، في ظل الهيمنة السورية، كنا نعيش في ظل فساد مستشر دون أن يتجرأ أحد على فضحه تحت ستار الاحترام الظاهري للدستور والقوانين.
لكن بعد 2005 عام اغتيال الحريري وخروج الجيش السوري، بدأت تظهر إلى العلن آليات الفساد وتحررت الأقلام فأدانت ممارسات وارتكابات الهيمنة السورية ودفعت حياتها ثمناً.
لكننا لم نتعرف على الفساد المشين الذي حلّ محل القوانين، إلا مع بدء العقد الثاني من الألفية الثالثة، وبعد أن وضع حزب الله يده على الدولة انطلاقا من اتفاق الدوحة والثلث المعطل. معتمداً آلية “السلاح لي والكراسي لكم”. ظهرت بوادر الاعتراض الشعبي ضد الفساد مع حركة طلعت ريحتكم وما تلاها.
انفضح الفساد كنمط ووسيلة للحكم، بعد تشكيل حلف مقدس قبض على السلطة بشكل مطلق تحت حماية حزب مسلح. وصاروا:”يا جبل ما يهزك ريح”، بإمكانهم نشر غسيل فضائحهم المتبادلة في سياق صراعهم وتناتشهم على الحصص دون خوف عقاب.
السؤال الآن، ما العمل في بلد وصل الى طريق مسدود قبل سقوطه المدوي؟ لماذ لم يسقطهم مطلب محاربة الفساد؟ حتى حركة أمل تتظاهر ضد الفساد، بينما شرطة رئيسها تقتلع عيون المتظاهرين. حزب الله أول من افتتح مقولة محاربة الفساد، ولكنه يزعم عجزه عن ذلك. هل لعدم قدرته، أم لأن الفساد أداة هيمنته؟ التظاهر ضد الفساد أصبح فولكلورا.
لكن العنف من حصة من يرفع شعار السيادة وشعار “لا للسلاح” الخارج عن الشرعية. وتُشيطن زيارة فارس سعيد لطرابلس وتستفز “ربيع الزين”، الذي تربطه بعض الشائعات بالأجهزة، ليرفض شعار “إيران برا”. من يصدق أن طرابلس أصبحت مغلقة بوجه السياديين لصالح أجندة حزب الله، أو أنها راغبة بالوصاية الإيرانية؟
ثم هل من الممكن في لبنان “طبيعي، سيد، مستقل” أن تعجز مئات الآلاف التي ملأت الشوارع عن تغيير السلطة وفرض انتخابات مبكرة! لولا وجود سلطة عليا تحمي من في السلطة؟
وكيف يمكن الوصول إلى الحق ومحاسبة الفاسدين ما دام القانون يتوقف على أعتاب مناطق معينة؟
كيف يمكن وقف الانهيار مع رفض تدخل صندوق النقد؟ كيف يمكن محاربة الفساد، والقانون يطبق في مناطق ويقف خارج حدود مناطق أخرى؟ كيف نحارب الفساد وهناك من يضرب عرض الحائط بحكم المحكمة الدولية، والقضاء اللبناني، فلا يسلم المطلوبين والمحكومين لديه؟ كيف يمكن محاربة الفساد مع حدود مشرعة محمية بسلاح الدويلة؟
هل يريد حزب الله الإصلاح بينما يحمي جبران باسيل، الوحيد الذي اجمعت الثورة على رفضه؟
وهل تسمح العدالة بمحاكمة فاسد مستضعف وتترك الفاسدين المحميين؟
ما الذي ننتظره بعد أن تزعزعت أركان الدولة بسلطاتها التشريعية والتنفيذية وقُضي على المصارف وأُضعف الجيش؟!! أما القضاء، فبلسان وزير الداخلية، أن 95% منه فاسد؟ فهل تمكنت الثورة من الوصول بملف واحد إلى خاتمته؟ هل تمت محاسبة أحد رغم تراكم الملفات ومستنداتها؟
مع أن الثورة هزّت أركان السلطة ووضعتها في مأزق كشف أوراقها. مع ذلك لا حكومة بديلة في المنظور لأن لا مصلحة لإيران بها الآن.
إنه احتلال بالوكالة، يضع الدولة في دائرة الخطر الوجودي، فما الذي سينقذ لبنان مكافحة الفساد أم استعادة السيادة؟
إنها معركة تحرر وطني تتطلب تشكيل أوسع تحالف من كل لبناني مستعد لحمل مطلب تطبيق الطائف والدستور والقرارات الدولية. القضاء المستقل ومساواة المواطنين أمام القانون هما الشرطان الأساسيان لمحاربة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة!! ولا قضاء مستقل يحاسب المرتكبين دون سيادة.
أمام خطر انمحاء لبنان الدولة، لا نملك ترف رفض من يراجع نفسه من الطبقة السياسية ويحارب من أجل استعادة السيادة. المحاسبة على سرقة المال العام تأتي لاحقاً.
انقذوا لبنان أولاً. ومن ثم حاسبوا من تريدون. ولنبدأ بأنفسنا، فجميعنا استفاد من سياسة مصرف لبنان المالية وعشنا فوق مستوى معيشتنا الحقيقي وسكتنا.
monafayad@hotmail.com