اتسم رد المليشيات الشيعية الحوثية على هدايا إدارة بايدن بالغلاظة المتمادية. وقد رحبت بالمبادرة الأمريكية لوقف مبيعات الأسلحة للسعودية، ومبادرة إلغاء تصنيفها كمنظمة إرهابية أجنبية، وتعيين ممثل خاص لواشنطن في اليمن، بعمليات عسكرية غير مسبوقة وواسعة النطاق تركزت على محافظة مأرب الغنية بالنفط والغاز والمتاخمة للحدود الجنوبية السعودية.
اندرجت العمليات العسكرية الواسعة للحوثيين في إطار التصعيد الإيراني في كل العواصم العربية المحتلة من قبل المليشيات الطائفية التابعة لـ »الحرس الثوري”. وكان نصيب اليمن من التصعيد كارثيا بكل المقاييس, خاصة بعد أن تأكد ملالي طهران بأن ملف هذا البلد يتصدر أولويات برنامج التحرك السياسي والدبلوماسي للإدارة الأمريكية الجديدة.
لقد شجعت الهدايا المجانية التي قدمتها هذه الإدارة المليشيات الحوثية في اليمن على ارتكاب مجازر فظيعة حصدت المئات من القتلى والجرحى.
وخلال أكثر من أسبوعين اكتظت ثلاجات وغرف وأروقة المستشفيات بصنعاء وغيرها من المحافظات الواقعة تحت سيطرة الحوثيين بالجثث. ومِثلُ ذلك حصل في الطرف الآخر والكل يتكتم على عدد الضحايا المهول.
ولما كانت الهجمات الحوثية تستهدف مأرب التي تستضيف ما يزيد على مليونين من النازحين هربا من جحيم القتال في مناطقهم، فقد خلقت هذه الفظائع أزمة إنسانية أكثر مأساوية. خاصة بعد وصول ألسنة النيران إلى مخيمات النازحين، وبعد أن تحولت بعض المخيمات إلى مسرح للمواجهات الطاحنة وإلى أهداف لقصف مدفعية المليشيات، واستهدفت عشرات الأسر بالتنكيل والنهب وسفك الدماء.
وعلى وقع هجماتها المحمومة باتجاه مأرب، دفعت المليشيات الحوثية بالعنصر العسكري والأمني النسائي” الزينبيات” لاستقطاب الأطفال وتجنيدهم بترغيب وترهيب الأمهات، وحرمان الأسر التي لا تستجيب من الغاز المنزلي والمساعدات الأممية. وتبعا لذلك، تضاعف عدد الأطفال الذي جرى زجّهم في مقدمة جبهات القتال مطلع هذا العام. ومن الوارد أن تتجاوز أعداد القتلى من الأطفال في قادم الأيام أضعاف من قتلوا في العام الماضي حسب معطيات المستشفيات خلال الأيام الماضية.
لقد ساهمت إدارة بايدن التي زعمت بأن مبادراتها تجاه اليمن تنطلق من « دوافع إنسانية” في مفاقمة الكارثة الإنسانية بمضاعفتها لمحنة النازحين الذين اضطروا إلى مغادرة مخيماتهم المحترقة ونزحوا إلى مناطق أخرى غير آمنة، ايضا، وإلى مخيمات مرتجلة في مرمى نيران المتقاتلين مع اشتداد ضراوة المواجهات وهمجيتها.
على أن الأمر الأخطر في هذه المرة يكمن في واقع أن الطابع العقائدي للمواجهات أصبح عاريا بين المتطرفين الإسلاميين السنّة ورجال القبائل المتحالفين معهم من جهة، وبين المليشيات الحوثية الشيعية من جهة ثانية وما تَستخدِم من “عُدة عمل” شعاراتيّة تسم خصومها بـ « التكفيريين” و « الغزاة اليهود والنصارى »، ليرد عليها الطرف الآخر بـ« الروافض » و« المجوس » ما يوسع أبواب جحيم الصراع تحت عناوين مايكروـ فاشية همجية.
المؤكد أن قرار الهجوم على مأرب من مختلف المحاور، وبمختلف الأسلحة الثقيلة والمتوسطة والخفيفة، والصواريخ البالستية والمُسيّرات المفخخة قد اتُّخِذ في طهران قبل أن تستقبل المبعوث الأممي مارتن غريفيت. ولكن المعركة لم تُحسَم بالسرعة الخاطفة حسب ما خططت لها قيادات ” الحرس الثوري”! وكان الحاكم العسكري الإيراني بصنعاء « حسن ايرلو » قد ألقى كلمة في الاحتفال الذي أقيم هناك بمناسبة ذكرى الثورة وقيام الجمهورية الإسلامية الإيرانية في 11 فبراير، أكد فيها على”ضرورة طرد القوات الأجنبية من اليمن”. وفي نفس المناسبة، أكدت كلمة حسن نصر الله قائد مليشيا « حزب الله » على أن “الحرب في اليمن تستهدف أسرة آل سعود”، رغم أن الهجوم الذي حشدت له المليشيات الحوثية الآلاف وأنفقت عليه مليارات الريالات كان يهدف، بالدرجة الأولى، إلى الفوز بالجائزة الكبرى: « مأرب » ونفطها وغازها ومواردها، والتنكيل بأهلها الذين قاوموها بأسطورية.
في الأثناء كان المراقبون يتكهنون بسيناريوهات ما بعد سقوط « مأرب », بما فيها سيناريو انطواء ملف ” الحكومة الشرعية” الفاسدة.
ثمة سيناريوهات كثيرة ومثيرة لا زالت قيد التداول ولا يتسع لها المجال هنا. وإن كان الراجح هو أن الوضع في اليمن بعد « مأرب » لن يعود كما كان عليه في حال سقوطها بيد المليشيات الحوثية أو حتى في حال استمرار تركيز المعارك فيها وعليها.
لاشك أن سيطرة الحوثيين على « مأرب » وغيرها من المحافظات الشمالية الحدودية مع السعودية سيشكل كابوسا للمملكة. فهي المستهدف الأول من قبل إيران عبر ذراعها الحوثي، وهي مستهدفة بالابتزاز والمناورات الأمريكية! وسوف ترتكب خطأ إستراتيجيا فادحا إذا ما عولت على تسوية مع الحوثيين عبر القنوات الخلفية التي تقترحها إدارة بايدن ـ بلينكن، لأن قرار المليشيات بيد طهران.
ولن تكون السعودية بمأمن إذا لم تنفتح على خيار مساندة اليمنيين غير الفاسدين وإن كانوا يخالفونها الرأي في إدارة شأن بلادهم. فالأمر الأهم هو تحجيم وتقزيم ونزع أنياب هذه المليشيات على طريق بناء علاقات قائمة على حسن الجوار واحترام حق العيش المشرك والمصالح المشتركة.
أما فيما خص الإدارة البايدنية فقد غدا واضحا أنها تريد أن تُنجز في بضعة أيام ما أخفقت عن إحرازه إدارة أوباما خلال 8 أعوام! وتلك داهية دهماء، كما يقال.
الواضح أكثر أن هذه الإدارة تدفع بالمنطقة إلى المزيد من الخراب والفوضى والدمار، وسوف ترتد عليها تبعات ذلك قبل غيرها. إذ أنه ليس من السهل اللعب بنار المليشيات أو مع نار المليشيات!
وما أجدر هذه الإدارة بالتقاط الرسائل النارية التي تأتيها من مأرب بعين الجد، والرسائل المماثلة التي تأتيها من بغداد أو من بيروت، لتتدارك نفسها من الانحشار في زاوية حرجة ومن الإذلال بسسبب حصرها لغايتها ومبتغاها في المنطقة في توسل عودة إيران إلى طاولة المفاوضات على برنامجها النووي.
قد يقول قائل أن هنالك مآرب أخرى لهذه الإدارة لا تُرى بالعين المجردة! لكن ما يحدث في « مأرب » اليمنية يشهد بأنها أعطت الضوء الأخضر لمحرقة كبرى.