مشروع البديل الروسي يتوقف على تطور نزاعات الإقليم والتموضع الروسي منها، ومسارات مواقف القوى الفاعلة على مسرح “الفوضى التدميرية” وتفتيش كل طرف دولي على المزيد من المكاسب في المنطقة.
أعلن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، خلال افتتاح أعمال منتدى فالداي للحوار الدولي (3 أكتوبر الحالي)، عن “نهاية الأعمال الحربية الكبرى في سوريا”، متباهيا بدور بلاده بعد أربع سنوات على التدخل الروسي الكثيف، لأن “حل الأزمة في سورية يمثل نموذجا لحل الأزمات الإقليمية في المنطقة”. وقبل جولة له منتصف هذا الشهر، تشمل المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، طرح الرئيس الروسي فكرة تأسيس منظمة للتعاون الأمني في الخليج، تشمل روسيا والصين والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة إضافة إلى الدول المطلة على الخليج هدفها تخفيف حدة التوتر وضبط مسائل أمن الملاحة وحريتها.
وهكذا انطلاقا من الاختراق على الساحة السورية تطمح روسيا للعب دور القوة الدولية النافذة ومنافسة الولايات المتحدة التي هيمنت على المنطقة بشكل أو بآخر منذ سبعينات القرن الماضي. لكن تمركز هذا الدور البديل يتوقف على أساليب وإمكانيات الانخراط والاستثمار الروسي في النزاعات والدورة الاقتصادية، وكذلك على النجاح في إدارة التقاطعات مع القوى الإقليمية الأساسية وعلى التنسيق مع الصين الصاعدة وتنظيم الاختلافات مع الولايات المتحدة والقوى الأوروبية.
عشية الزيارة الهامة، التي يعتزم الرئيس فلاديمير بوتين القيام بها إلى الرياض، لوحظ تركيزه على “النهاية الإيجابية للتدخل في سوريا” ولفت النظر تزامن ذلك مع طلب محدد تنوي القيادة الروسية تقديمه إلى المملكة العربية السعودية وهو؛ “تسهيل عودة سوريا إلى جامعة الدول العربية”، لأن “صوت المملكة مسموع داخل المنطقة وخارجها”، حسب قول سيرغي لافروف. وهذا يعني أن موسكو ستنتهز فرصة القمة بين الملك سلمان بن عبدالعزيز والرئيس فلاديمير بوتين، كي تتبنى المملكة العربية السعودية بدء مسار تأهيل النظام السوري عربيا ودوليا.
ويرتبط هذا الإلحاح الروسي برغبة موسكو في تحويل إنجازاتها العسكرية والعملانية إلى إنجاز سياسي لم تحققه حتى الآن نتيجة عدم رغبة واشنطن في تطويب أو تشريع انتداب دولي لروسيا على كل الأراضي السورية قبل التوافق على مستقبل منطقة شرق الفرات والحل السياسي النهائي في دمشق. وكانت محاولة روسية مماثلة قد جرت في صيف وخريف 2018 وتتوجت بزيارة الرئيس السوداني السابق عمر البشير إلى دمشق، ولكنها فشلت بسبب الفيتو الأميركي وعدم حماسة أطراف أوروبية أساسية.
ومن الواضح أن التطورات الميدانية في سوريا والهجمات الإيرانية في الخليج المواكبة لتردد وتراجع أميركي تدفع بالقيصر الروسي إلى تكرار المحاولة بخصوص سوريا تحت غطاء “التمسك بالدولة الروسية وليس بشخص الرئيس السوري”، كما يكرر لافروف، من خلال التأكيد على إمكانية التعاون حول أمن الخليج ولعب دور البديل عن القوة الأميركية ليس على الصعيد السياسي فحسب، بل كذلك في سوق السلاح والترويج لمنظومة الصواريخ المضادة للطائرات “أس – 400” كبديل عن منظومة باتريوت الأميركية التي فشلت في التصدي للهجوم ضد منشآت أرامكو.
تأتي الزيارة الروسية إلى الرياض على ضوء تطور العلاقات الثنائية منذ 2014 عبر التنسيق في سوق النفط وتنظيم الاختلاف حول سوريا والتشاور المنتظم خاصة بعد زيارة العاهل السعودي إلى موسكو. ومما لا شك فيه أن التلويح الأميركي بالانسحاب من الشرق الأوسط والخليج ونهج إدارة باراك أوباما المنفتح على إيران دفعا بالرياض وأبوظبي إلى التسريع في تنويع علاقاتهما الخارجية وعدم الاعتماد الحصري على الصلة مع واشنطن. بالنسبة إلى الملكة العربية السعودية أخذ التساؤل يزداد حول صلاحية “اتفاق كوينسي” الذي أبرم في العام 1945 وتم تجديده في العام 2005، حيث تتملص واشنطن من التزاماتها الأمنية مع تكرار مسؤوليها نغمة عدم الاستعداد لحماية المملكة، وأخيرا أدى الهجوم على شركة “أرامكو” السعودية والموقف الأميركي منه إلى خلط الأوراق، وعلى الأرجح أن ذلك سيتيح لروسيا فرصا لتعزيز حضورها على المسرح الإقليمي نتيجة التوتر في الخليج أو على صعيد سوق الطاقة.
وهكذا بالرغم من الضغوط الأميركية الممارسة على الرياض حسب مصادر مستقلة، ينتظر أن تسفر الزيارة عن التمهيد لشراكات مستقبلية اقتصاديا وسياسيا مع التمهل حول التفاهمات الإستراتيجية، لأن الرياض لا تبدو مقتنعة بفكرة المنظومة الأمنية الإقليمية من دون تراجع الحكم الإيراني عن نهجه التوسعي وتهديده للأمن الإقليمي، لكن ذلك لا يمنع إيجاد قواسم مشتركة حيال أمن الخليج وضرورة تحمل المجموعة الدولية لمسؤولياتها.
والمسلّم به أن تكرس المحادثات الثنائية التعاون بين روسيا وأوبك بما بات يعرف بـ”أوبك بْلاس” من خلال التنسيق المباشر بين البلدين الذي ترك بصمة إيجابية على الاقتصاد الروسي خلال الأشهر الأخيرة، وتحوّل الرياض مصدرا للاستثمار الخارجيّ الجوهري في روسيا، وبذلك ملأت الفراغ الذي خلّفته الشركات الأوروبية والأميركية بعد التوتر الغربي-الروسي منذ أزمة أوكرانيا عام 2014. ويصل الأمر ببعض كبار المحللين الاقتصاديين إلى القول بأن “العلاقات الاقتصادية بين الدولتين أصبحت متطورة إلى درجة أن روسيا يمكن أن تراهن على الرياض بديلا عن علاقتها مع طهران إذا كان ذلك ضروريا”.
وهناك مؤشرات على الساحة السورية تفيد بأن روسيا تعتبر إيران شريكا أكثر منها حليفا استراتيجيّا. ومن ناحية عملية ليس من الأكيد أن التمدد الإيراني الإقليمي يتلاقى مع المصالح الروسية. والأدهى أن الرهان الإيراني على أولوية العلاقة الاقتصادية مع العملاق الصيني ربما يدفع موسكو إلى المزيد من المقاربة الحذرة للعلاقات مع إيران وزيادة اهتمامها بالصلات مع الرياض وأبوظبي، خاصة أن الإمارات العربية المتحدة يمكن أن تمثل قطبا اقتصاديا جاذبا للروس ليس باتجاه الشرق الأوسط فحسب بل نحو بعض أفريقيا وآسيا أيضا.
تندرج المقاربة الروسية للعلاقة مع المملكة العربية السعودية في سياق نهج تكتيكي جديد نسبيا يقضي بإبعاد حلفاء واشنطن التاريخيين عنها. وأبرز مثل على ذلك، تركيا، لكنها ليست المثل الوحيد. إذ أن الخلاف الأميركي-الأوروبي على الملف النووي الإيراني وتصرفات إدارة ترامب تمنح موسكو فرصة كي تتقرب أكثر من بروكسيل، وبرز ذلك أخيرا في استئناف الحوار الاستراتيجي الفرنسي-الروسي. لكن ليس من الضروري أن ترحب الرياض بالمقاربات الروسية سواء لناحية صفقات السلاح أو الموقف من سوريا من دون تفاهمات شاملة.
تحاول روسيا الاستمرار في الاندفاع داخل الشرق الأوسط انطلاقا من نموذج مسار أستانا والعودة إلى مصر والاختراق في الخليج، وتحاول الترويج لشراكة متعددة الجوانب وتعزيز التفاهم المتبادل . لكن لن تسلم واشنطن بسهولة خسارة موقعها المهيمن بالرغم من متاعبها الحالية، فهذه المنطقة تشكل 51 بالمئة من مبيعات سلاحها العالمية عدا المنافع الأخرى المتنوعة. لذا سيتوقف مشروع البديل الروسي على تطور نزاعات الإقليم والتموضع الروسي منها ومسارات مواقف القوى الفاعلة على مسرح “الفوضى التدميرية”، وتفتيش كل طرف دولي على المزيد من المكاسب في منطقة يتم التنافس على ثرواتها وموقعها الاستراتيجي.