اللافت، كما أسلفنا، غياب “صفقة القرن“ عن كتاب يُوثق باليوم والساعة، أحياناً، مشاغل ومشاكل ترامب وإدارته. لا يُعقل أن يكون الغياب نتيجة حجب العاملين في البيت الأبيض، والإدارة، ما يتصل بموضوع كهذا من معلومات، فقد حصل الكاتب على معلومات، وتفاصيل، تفوق “الصفقة“ أهمية. ولا يُعقل، أيضاً، أن يكون الكاتب قد حجب موضوعاً كهذا، فقد أولى عناية خاصة لموضوعات أقل أهمية منه.
فهل يُعقل أن يكون ترامب قد تكلّم عن “صفقة القرن“ على طريقة تاجر العقارات (مهنته الأصلية) الذي يُروّج لبيع شقّة سكنية في بناية لم تنشأ بعد، وعلى قطعة أرض لم يحدد موقعها بعد؟ أعرفُ أن التجريح يشبع غرائز كثيرة. وليس المقصود مما تقدّم، أو يلي، التجريح، بل تقرير حقيقة تدعمها وقائع في كتاب “الخوف“.
فترامب يحب التوقيع، كما يقول مساعدوه، ويسأل مساعديه في بداية يوم العمل: ماذا سأوقّع اليوم؟ ويحدث، أحياناً، أن يطلب من مساعديه إعداد صيغة أمر رئاسي، فوراً، ووضعه على مكتبه للتوقيع. وقد حدث في أكثر من مناسبة أن أعد مساعدوه أوامر للتوقيع، ووضعوها على مكتبه، فقام آخرون بسحبها خلسة، قبل توقيعها، طبعاً، في رهان على ضعف ذاكرة الرئيس، الذي سينسى بعد قليل ما طلب التوقيع عليه. وهذا ما كان.
وحدث، أيضاً، أن أثار طلب التوقيع على أمر ما نوعاً من الذعر في أوساط مستشاري الأمن القومي، والسياسة الخارجية، والتجارة، والمؤسسة العسكرية. ففي أكثر من مناسبة طلب ترامب إلغاء الاتفاق التجاري مع كوريا الجنوبية بذريعة أن الكوريين الجنوبيين يجب أن يدفعوا أموالاً للأميركيين مقابل حمايتهم من كوريا الشمالية. وهذا يصدق على اتفاقيات مع دول أخرى، ومع حلفاء تقليديين للولايات المتحدة.
المعيار الوحيد للممارسة السياسية، في ذهن ترامب، هو ما يمكن أن يخسر أو يربح من مال، بلا حسابات استراتيجية لتداعيات قريبة أو بعيدة المدى لهذا الخيار أو ذاك. ولا يوجد ما يدل على تمييز واضح في ذهنه بين الحسابات الاستراتيجية، وما تستدعي من معارف، وخبرات، وكفاءة في التحليل والتعليل، وبين شطارة التاجر في “حلب“ هذا الزبون أو ذاك. وهذا، في الواقع، مفتاح علاقته بالعالم العربي، أيضاً. وفي الكتاب أمثلة كثيرة لا يتسع المجال، هنا، للخوض في تفاصيلها.
وما يثير الذعر، على نحو خاص، أن ثقافة ترامب بصرية، تماماً، وأن علاقته بالعالم تمر عبر شاشة التلفزيون. فهو، والعهدة على وودورد، يقضي أحياناً ما بين 6 إلى 8 ساعات في اليوم أمام شاشة التلفزيون، ويأمر مساعديه بطباعة تغريداته على تويتر، وينفق وقتاً طويلاً في دراستها وتحليلها، وإحصاء ما نالت من “لايكات“، ويعتقد بأنه “أرنست همنغواي“ تويتر. وفي الكتاب مفارقات لافتة بشأن “مؤامرات“ و“حيل“ مساعديه لتقييد، وضبط، علاقته بتويتر والتلفزيون.
وأهمية هذا كله، ومخاطره، تتجلى في حقيقة أن مكتب المحقق الخاص في احتمال تدخّل الروس في الانتخابات الرئاسية، وعلاقته المتردية بوسائل إعلام التيار الرئيس، المكتوبة والمرئية هما عنوان قضيته الوجودية، ومصدر صداعه اليومي، وكل ما يأتي ما دون هذه وتلك، يحتل مرتبة أدنى في سلّم الهموم والأولويات، حتى وإن كان سلاح كوريا الشمالية النووي، أو طموح إيران الإمبراطوري في الشرق الأوسط.
بمعنى آخر، يمكن تفسير تجليات مختلفة للممارسة السياسية، في الداخل الأميركي، وخارجه، مع كل ما تنطوي عليه من مجازفات، وقصر نظر، بوصفها ردود أفعال، ومحاولات لجني مكاسب معيّنة هنا وهناك يمكن أن تساعد في درء مخاطر محتملة قد تصل حد العزل، والطرد من البيت الأبيض. ولعل في هذا ما يمثل ردّاً جزئياً على سؤال يشغل بال الأميركيين، وآخرين في مناطق مختلفة من العالم:
هل تدهورت أميركا، فعلاً، إلى حد أن قدراً غير مسبوق من اللاعقلانية يسم سياستها في عهد ترامب، وإلى حدٍ يمكّن شخصاً بمؤهلات فضائحية كهذه، من تقويض السلم الأهلي، وزعزعة النظام الديمقراطي هناك، وإشاعة الفوضى في كل مكان آخر من العالم؟
الجواب: لا يحكم الرؤساء الأميركيون على طريقة الرؤساء في العالم العربي. وعلى الرغم من حقيقة أن ترامب حالة استثنائية، فعلاً، إلا أن الخطوط العامة لسياسته في الداخل والخارج تحظى بدعم قوى متنفّذة في أوساط الجمهوريين، والإنجيليين، واليمين الأميركي عموماً. وهو، بهذا المعنى، رأس حربتها، وقناعها الخارجي.
لذا، ثمة ما يبرر القول، وعلى ضوء تلميحات في الكتاب، إن موضوع “الصفقة“ ربما نوقش في إطار حلقة ضيّقة تضم عدداً من “الزملاء“ أصحاب المليارات، وبعض النافذين من الجمهوريين في الحزب، والكونغرس، وكل هؤلاء من خارج الإدارة والبيت الأبيض، وهم الذين ينفق ترامب ساعات طويلة على الهاتف معهم. وبقدر ما تتوفر القرائن، يبدو أن مسؤول دائرة الشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي، وكوشنر، زوج ابنته، على رأس قائمة المعنيين بترجمة بيع الشقة التي لم تبن بعد، في عقار لم يتضح بصورة كافية بعد، إلى كلام في السياسة.
أخيراً، لا يحق للفلسطينيين والعرب الكلام عن مؤامرة. لا توجد مؤامرة.
كل ما في الأمر أن تاجر عقارات يعتقد أن ثمة صفقة رابحة، وأنه لن يخسر “صديقاً“ وحداً من العرب، وأن حقوق الفلسطينيين لا تستحق ما يُنفق عليها من دولارات، وأن القانون والشرعية الدولية، والقيم، أشياء تجلب النحس والفقر، وأن صداقة إسرائيل ورقة رابحة في الدنيا، وفي الآخرة، أيضاً، كما يعتقد أنصاره. ولا عزاء للغافلين.
khaderhas1@hotmail.com