في صباح يوم الاجتماع المقرر للمقاولين المتنافسين لتنفيذ مشروع الإسكان، أخذنا سيارة أجرة من شارع صلاح الدين بالقدس الشرقية وتوجهنا من القدس إلى مدينة غزة. ولم نصادف عقبات تُذكر في الطريق، رغم وجود نقطة تفتيش عند الخروج من القدس إلى الضفة الغربية ونقطة تفتيش عند الخروج من الضفة إلى إسرائيل ثم نقطة تفتيش أخرى عند الخروج من إسرائيل إلى قطاع غزة. الشعور العام كان يبدو وكأننا في حالة حرب رغم أن التوقيع على اتفاقية أوسلو لم يكن قد جف مداده، وكان أهم أسباب التوتر غي هذا الوقت هو الجريمة الإرهابية التي ارتكبها إسرائيلي إرهابي وكانت قد حدثت في الحرم الإبراهيمي منذ عدة أيام.
وكان انطباعي الأول بعد عبورنا إلى قطاع غزة، هو أن مدينة غزة تذكرني إلى حد كبير بإحدى مدن شمال الدلتا، وأن كانت أكثر ازدحاما وأكثر فوضى. ولم ألاحظ وجود أي إشارات مرور، كما لاحظت كثرة الأطفال في الطرقات بشكل ملفت للنظر رغم أننا وصلنا وقت مفروض أن يكون فيه هؤلاء الأطفال في مدارسهم! ولاحظنا أيضا قلة عدد النساء في الطرقات، وكلهن محجبات، ولم تكن هناك منقّبات حيث أن موضة النقاب لم تكن قد وصلت بعد!
والحقيقة أن مدينة غزة هي من أكثر المناطق ازدحاما في العالم من حيث عدد السكان لكل ميل مربع، حيث يبلغ 69 ألف نسمة لكل ميل مربع، وهذا يضعها في قائمة أكثر خمس مدن ازدحامنا في العالم. أما الإزدحام داخل مخيمات اللاجئين في غزة فهو يبلغ 144 ألف نسمة لكل ميل مربع، وهذا يضع تلك المخيمات في المرتبة الأولى بالمقارنة لأكثر المناطق ازدحاما في العالم. وتسبق بهذا مدينة مانيلا عاصمة الفليبين (107 ألف نسمة لكل ميل مربع). (ترى في الصورة حجم الازدحام)
وكان موعد اجتماعنا في غزة هو صباح أحد أيام شهر مارس من عام 1994 (لا أذكر التاريخ على وجه التجديد). واجتمعنا في صالة اجتماعات في غزة تابعة للسلطة الفلسطينية (المؤسّسة حديثا)، ووصلنا قبل بدء الاجتماع بقليل وكان هناك عدد كبير من الشركات الفلسطينية وشركة أمريكية وحيدة منافسة لنا. ويبدو أن الشركات الأمريكية في هذا الوقت لم تكن متأكدة حقا من استقرار المنطقة وخاصة قطاع غزة. وقد أدار الاجتماع مهندس فلسطيني من السلطة الفلسطينية (بصفتها الجهة المالكة للمشروع)، وكان معه مهندسة فلسطينية من أهالي القدس تعمل لدى « هيئة المعونة الأمريكية » (الجهة الممولة للمشروع)، وشرحوا لنا أن المشروع عبارة عن عدة عمارات سكنية سوف يتم بناؤها في « معسكر جباليا » (معقل حركة حماس بالمناسبة)، وكل عمارة سكنية يبلغ ارتفاعها عشرة أدوار. وتم تصميم العمارات السكنية بواسطة مكتب هندسي أمريكي وبالمواصفات الهندسية الأمريكية.
وشرحوا لنا بأنه تم تقسيم المشروع إلى خمسة أجزاء منفصلة وذلك لإتاحة الفرصة لأكبر عدد ممكن من المقاولين الفلسطينيين للعمل بالمشروع. وشرحوا لنا بأنه تم دعوة بعض الشركات الأمريكية لأن هذا هو قانون هيئة المعونة الأمريكية بضرورة إعطاء الفرصة للشركات الأمريكية والمحلية أيضا للمنافسة، وأيضا شرحوا لنا أن الشركات التي لم تحضر الاجتماع سوف تُحرم من المنافسة في المشروع. وشرحوا أيضا كيفية تنظيم المشروع. فهناك وزارة الإسكان في السلطة الفلسطينية (الجهة صاحبة المشروع وصاحبة أرض المشروع) ومقرها رام الله، وهيئة المعونة الأمريكية، الجهة الممولة للمشروع ومقرها السفارة الأمريكية في تل أبيب، وهناك أيضا مكتب استشاري أمريكي للمشروع وهي شركة « لويس برجر » (وهي من كبريات الشركات الهندسية الأمريكية). وقيل لنا بأننا سوف نقدم عروض الأسعار إلى المكتب الاستشاري، الذي بدوره سوف يقوم بدراستها ويقدم تقريرا إلى السلطة الفلسطينية في رام الله وصورة من التقرير إلى هيئة المعونة الأمريكية في السفارة الأمريكية في تل أبيب. وأيضا فواتير المشروع سوف يتم اعتمادها من الاستشاري ويتم تقديمها لوزارة الإسكان بالسلطة الفلسطينية، وبعد ذلك يتم الصرف من هيئة المعونة الأمريكية عن طريق تحويل بنكي مباشر من واشنطن إلى حساب المقاول.
وكانت هناك استفسارات من جانبنا عن طريقة إدخال المواد والمعدات التي نحتاجها للمشروع سواء من مصر أو من الضفة الغربية أو من إسرائيل. ورغم وجود الحواجز، فإن التعامل التجاري بين فلسطين وإسرائيل لم يتوقف! قد يتعطل بسبب التوتر، ولكنه لم يتوقف! فالعملة الإسرائيلية (الشيكل) كانت هي العملة المستخدمة في فلسطين، وإسرائيل تمد فلسطين بالكهرباء والتليفونات. وأوضح المسؤول الفلسطيني لنا أن هناك ترتيبات بين السلطة الفلسطينية والسلطات الإسرائيلية بهذا الخصوص.
وسألنا أيضا عن توفر العمالة المحلية في غزة، فعرفنا بأن العمالة متوفرة، وتتشوق للعمل في المشروعات الجديدة داخل غزة.
وفي نهاية الاجتماع تم تذكرينا بأن لدينا شهر ونصف فقط لتقديم عروض أسعارنا.
وبعد نهاية الاجتماع تعرفت شخصيا على معظم من حضروا الاجتماع وكان من بينهم المهندسة الفلسطينية التي كانت تعمل لدى هيئة المعونة الأمريكية. وكنت قد سألتها عن أسماء مقاولين يعملون في غزة والضفة الغربية، فأعطتني تليفون زوجها وقالت لي بأن لديه شركة مقاولات في القدس ويستطيع مساعدتنا، فرحبت بالتعرف إليه. وبالفعل قمت بزيارته في مكتبه بالقدس فيما بعد.
وقررنا الرجوع في نفس اليوم من غزة إلى القدس. وعند نقطة العبور من غزة إلى إسرائيل كان التفتيش دقيقا جدا بل ومهينا إلى حد كبير، ولكننا وصلنا أخيرا إلى القدس. وفي اليوم التالي، أدينا صلاة الظهر في المسجد الأقصى، ثم قمنا بتأجير سيارة أجرة مقدسية، وتوجهنا إلى الحدود الإسرائيلية المصرية عن طريق معبر رفح. وعند نقطة التفتيش الإسرائيلية لم تكن هناك مشاكل تُذكر، لكن عند الوصول إلى نقطة التفتيش المصرية كان علينا بعد عبور الجوازات أن نمر على ضابط أمن الدولة. وبعد أن تم ختم جواز السفر، تم تحويلنا إلى مكتب ضابط أمن الدولة.
وفوجئنا بأن الضابط غير موجود حيث أنه لم يحضر إلى مكتبه لأنه يشاهد مباراة الأهلي والزمالك!! وانتظرناه لأكثر من ساعة، ورغم أني زملكاوي إلا أني كنت أدعو من أعماق قلبي أن يكون الضابط أهلاويا حتى يوقع على جواز السفر بسرعة حيث تكون روحه المعنوية عالية، لأني عرفت من أحد الجنود الذي كان يستمع للمباراة في الراديو أن الأهلي قد فاز في المباراة!
وعندما حضر الضابط سألني عن سبب زيارتي إلى غزة وسألني عن المدن التي زرتها في فلسطين أو إسرائيل؟ واستجاب الله لدعائي حيث كان أهلاويا وكان لطيفا ومهذبا، ولكنه في نهاية المقابلة وبعد أن وقّع على جواز سفري وختمه بخاتم النسر، سألني عن أمكانية التعاون مع جهاز أمن الدولة وتقديم معلومات مهمة تفيد أمن الدولة! واعتذرت له بأدب وقلت له بأني سوف أكون مشغولا (« لشوشتي ») أثناء عملي ولن يكون لدي أي وقت للقيام بعمل ممتاز لحماية أمن الدولة! فتفهّم الرجل اعتذاري وتركني أمر إلى رفح المصرية.
…
وفوجئت بعد يومين من عودتي للقاهرة بضابط برتبة عقيد من جهاز أمن الدولة يتصل بي في مكتبي بالشركة في المعادي، ويطلب مني أن أزوره في أقرب وقت لكي “أشرب معه فنجان قهوة”! ولم أستطع الاعتذار لأني لا أشرب القهوة، وخاصة إن كانت سوف تقدم لي في مبنى جهاز أمن الدولة! ووعدته بزيارته في مكتبه، وأن كنت أفضل أن أشرب كوب عصير قصب!
وبالطبع انتابني القلق من تلك المكالمة ومن تلك الزيارة المرتقبة لضابط أمن الدولة في القاهرة، وكلمت أخى الأكبر المهندس مصطفى البحيري (رحمه الله)، وكان يعمل في منصب حكومي كبير يسمح له الاتصال بعدد من كبار ضباط الأمن. وعندما أبلغته عن قلقي من زيارة ضابط أمن الدولة، قال لي شامتا (حيث كان غير موافق على مهمتي تلك): « أنت إللي جبت ده كله لنفسك، على العموم سيبك منه وأنا حاأكلم رئيسه »!
وبالفعل لم أذهب، ولم يعاود ضابط أمن الدولة الاتصال بي.
“ذكرياتي في فلسطين وإسرائيل”: الحلقة الخامسة القدس… زهرة المدائن